القوة المتعجرفة وصناعة الأزمات

00:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

في الحكمة كثير من القوة، قوة العقل والبرهان واتخاذ القرار السليم، ولكن ليس في القوة دائماً حكمة، فالقوي المغتر بعضلاته وقدراته وإمكانياته وأسلحته يمكن أن يدمّر كل ما ومن يعترض طريقه. الدولة القوية عندما يصيبها الغرور وتتوهم أن كل العالم ملك يمينها وأنها صاحبة النفوذ والتأثير والقرار في مشرقه ومغربه وشماله وجنوبه، تسعى لدهس كل من يختلف معها، ولا تتورع عن إشعال الحروب وخلق الفتن لدى كل من يرفض أن يكون تابعاً لها، لن تنقلب قوتها عليها ضعفاً فقط، ولكنها ستنقلب على العالم كله انهياراً وركوداً ثم خراباً ودماراً. 

ولعلنا اليوم نعيش أول فصول هذه المسرحية السياسية التي تنذر أن عالمنا تقوده القوة الأعظم إلى حافة الهاوية، بعد أن فقدت القدرة على التخطيط المتريث حتى في صناعتها للأزمات حول العالم، وكأن الحرب في أوكرانيا والتي طالت شراراتها الاقتصادية العالم بأسره لا تكفي، ولذا عملت على خلق أزمة جديدة مع الصين لتزيد الأوضاع على الكوكب سوءاً على سوء.. 

نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، قررت ألّا تكون مجرد لاعب سياسي مؤثر على الداخل الأمريكي بقيادتها مجلس التشريع، ولم تكتفِ بالعقوبات التي يقرها المجلس على الأطراف الدولية التي تتمرد على السياسة الأمريكية، فقررت أن تكون لاعباً في السياسة الدولية، تتولى إثارة الأزمات التي يؤجل أو يتردد في إشعالها البيت الأبيض، فقامت بزيارة إلى جزر تايوان التي يشهد التاريخ وتدعم الجغرافيا كونها جزءاً لا يتجزأ من الصين الشعبية، قررت زيارتها كدولة مستقلة، وهي تعلم أنها ليست مستقلة وليست عضواً في الأمم المتحدة، وليس لها تمثيل دبلوماسي لدى دول العالم، وهو ما يعني أن السيدة بيلوسي لم تتحدَّ العملاق الصيني وحده، ولكنها تجاوزت قواعد القانون الدولي. 

المسؤولون لا يزورون سوى الدول المستقلة، ومن الحكمة ألّا يزور أي مسؤول في أي دولة مناطق متنازعاً عليها أو غير محسوم مصيرها، إلا لو كان هدفه إشعال أزمة جديدة، وهذا ما فعلته رئيسة مجلس النواب الأمريكي رغم إرادة البيت الأبيض وسيده، ورغم إرادة الدبلوماسية الأمريكية (حسب المعلن)، وهذا لا ينفي إمكانية أن يكون السيناريو كله متفقاً عليه بين صناع السياسة الأمريكية، ولعل الطيران العسكري الأمريكي الذي رافق بيلوسي وهي تدخل الأجواء التايوانية خير دليل. 

السياسة الأمريكية والغربية أجبرت الدب الروسي بالأمس على أن يكشر عن أنيابه، ويقرر حماية أمنه القومي ب«عمليات عسكرية خاصة» ممتدة منذ 6 أشهر على أوكرانيا، وقدّمت الولايات المتحدة كل الدعم الممكن بالسلاح والمال حتى تستمر الحرب لأشهر وربما لسنوات، بصرف النظر عن تبعاتها الاقتصادية والنفسية على جميع سكان ودول الكوكب، واليوم تتحرش بالتنين الصيني وبأمنه القومي بالتعامل مع تايوان على أنها كيان سياسي مستقل، وهي تعلم جيداً أن العالم كله يدعم وحدة الصين، وأن النسر الأمريكي وتابعيه هم الذين فتتوا دولاً ويسعون لتفتيت البقية. 

جاءت بيلوسي إلى تايوان وذهبت، ولم تترك لها سوى أزمة مع الصين، ولكن الحكمة التي تنتهجها الصين والتي تقضي بأنه لا يؤخر عملقتها الاقتصادية شيء دفعتها فقط لشد أذن تايوان، وإرسال رسائل تهديد ووعيد لأمريكا من خلال المناورات التي أجرتها واخترقت خلالها الأرض التايوانية مرات، واستعرضت أسلحة وصواريخ بعيدة المدى، لتقول إن إشعال حرب مع الصين ستكون عواقبه وخيمة على الجميع، وأن الاعتداء على وحدة الصين لن يكون مقبولاً وهو لعب بالنار حسب وصف الرئيس الصيني، وأن تكرار ما فعلته بيلوسي لن يخلف سوى خراب يضاف إلى الخراب الذي يعانيه الكوكب اليوم. 

الزيارة الأمريكية إلى تايوان كرست لدى معظم دول العالم أن أمريكا ليست حريصة على استقرار العالم ولا أمنه وأمانه، وأن سياستها قد تقود العالم إلى الانهيار، ولذا عبرت 165 دولة عن رفضها للزيارة، البعض رفض بلغة مهذبة تؤكد حرصه ودعمه وحدة الصين، والبعض عبر بلغة صريحة تشجب وتندد بالزيارة، وتحذر من عواقب التهور السياسي على العالم. 

لو كانت القوة الأعظم، حريصة على السلام العالمي، لتحولت إلى مطفئ للحروب ووسيط في النزاعات ومبادر لخلق الاستقرار وواضع حلول لأزمات العالم حتى لا ينازعها أحد موضع القيادة العالمي، ولكن في ظل التخبط الذي تعيشه البشرية فمن حق غيرها أن ينازعها القيادة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"