التحولات ومستقبل الجنس البشري

00:55 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

الحياة، بالمعنى الفلسفي، هي المبدأ الذي يجعل الكائن متصفاً بصفات معينة أبرزها الإحساس والتعاطف، وماهية الحياة هي الخصوبة والسعي والانتشار، والحياة صيرورة دائمة، والصورة الحيوية تسمو بالوجود.

لكن ثمة أزمة تأصيل المعنى يدور حولها جدل كبير في علم الاجتماع الغربي، تنبت من شعور الإنسان المعاصر في مجتمعات ما بعد الصناعة- الحداثة بالتعاسة والتوتر، على الرغم من إشباع كل احتياجاته المادية، ومن ثم فهي أزمة وجودية مصدرها الشعور بالافتقار إلى معنى كلي للحياة. الأمر الذي يمكن تبريره بتقويض ركائز المجتمع التقليدي تحت ضغط دوافع عديدة، منها تراجع مفهوم الأسرة، ومن ثم قيمة العاطفة؛ حيث تتوارى تدريجياً الرغبة في بناء أسرة من الأساس، وتزداد جاذبية الحياة الفردية، ومن ثم يسود نمط محايد للعلاقات الإنسانية، ما أدى ذلك إلى ذبول إحساس العامل بالغاية الإنسانية، وذلك بعد أن سيطرت العلمانية السياسية على تشكيل الفكر الحديث الذي أسس عليه العالم؛ فالعلمانية ليس عندها ثوابت فوق الأفكار، وأصبحت أقوى محرك في التغيرات الثقافية والقيم والحريات والعدالة.

لقد جعلت العلمانية السياسية، والرأسمالية الليبرالية الواسعة، العملية الإنتاجية عابرة للمحيطات والبحار، وجعلت الفضيلة بما يتوافق عليها البشر؛ فالاتفاق البشري هو أصل الخير والشر والإباحة والتحريم، والإنسان هو المعيار النهائي للفضيلة. وفي ظل هذا المصير وصدام المفاهيم والمشهد المصور مع الحقيقة العميقة في خلل فطرة الكائن الإنساني، نتيجة اضطراب التصورات والقيم والموازين، ما قد يؤدي بالبشرية بجملتها إلى الغوص في رجعية شاملة متمثلة في صور شتى، والخروج من الحالة الطبيعية الأخلاقية القائمة على العلاقة بين الناس، ومنها الزواج الذي شرعه ودرج عليه البشر منذ أقدم العصور، وهذا المنهج الذي يؤدي إلى النسل واستمرار الحياة، وتحقيق الكمال الأخلاقي المنظم.

غير أن النزعة المثلية في الآونة الأخيرة اتخذت طابعاً خطِراً بعد أن بدأت دول عديدة في الغرب بالاعتراف بما يسمى «مجتمع الميم»، وفي هذا الصدد فقد أقر الكونغرس الأمريكي مؤخراً تشريعاً يكرّس المساواة في الزواج في القانون الفيدرالي، ويحمي الأزواج المثليين والأزواج متعددي الأعراق، وقد اعتمد الرئيس الأمريكي جو بايدن هذا القانون. وفي كندا، وافقت الكنيسة الإنجيلية على قبول زواج المثليين. كما أعلنت الكنيسة الأنجليكانية البريطانية التي يتبعها نحو 73 مليون مؤمن في العالم، «أن ممثلي مجتمع الميم سيتمكنون قريباً من تلقي مباركة الكنيسة لعقد زواجهم المدني، وسيتمكن الأزواج من نفس الجنس لأول مرة من القدوم إلى الكنيسة لتقديم الشكر على زواجهم المدني أو الشراكة المدنية».

غير أن موقف الكنيسة هذا لم يكن عن رضى كامل منها؛ وهذا ما كشف عنه كبير أساقفة كنيسة كانتربري، جاستن ويلبي، الذي قال: «لقد تم القضاء تقريباً على القيم المسيحية المتمثلة في المسؤولية المجتمعية»، معتبراً أنه «في المملكة المتحدة وفي أجزاء كثيرة من أوروبا، لا ينتمي غالبية الناس الآن إلى أي دين على الإطلاق».

إن النزعة المثلية التي طغت هذه الآونة على المجتمعات الغربية، لا تلقى نفس الاهتمام في المجتمعات الأخرى في العالم، وكانت روسيا وهي أمة مسيحية وتتلاقى عاداتها بشكل كبير مع عادات الغرب، قد أعلنت عن رفضها التام للزواج المثلي. ويوم الثلاثاء الماضي، قال الرئيس بوتين، في خطاب أمام الجمعية الفيدرالية،: «العائلة هي اتحاد رجل وامرأة، وهذا ما تقوله الديانات السماوية، لكن الغرب يحاول فرض أجندته الثقافية على الكنيسة وفرض المثلية عليها، أما نحن فنسعى للحفاظ على أطفالنا».

وفي الصين القوة العالمية العظمى الصاعدة، يواجه الأشخاص المثليون والمتحولون جنسياً، تحديات قانونية ومجتمعية، لا يواجهها غيرهم من المغايرين جنسياً، لكن ينظر إلى المثلية الجنسية مرضاً عقلياً، ولا يحق للمثليين الزواج أو التبني. وأيضاً لا تزال الكثير من الدول ترفض بشكل قاطع هذا النوع من الزواج، كما أن مجتمعات أخرى كثيرة في العالم، والتي لا تخضع لقيم الغرب ولا لنفوذه، لا تزال تعلي قيم العائلة، وتبتعد عن تلك الظاهرة الجديدة.

ولا شك أن غلبة الغرب على الشرق في الصراع الدائر حالياً بين الجانبين، سيؤدي إلى تعميم أفكار الغرب ومنها «مجتمع الميم» على العالم أجمع، فالصراع الحالي ليس فقط صراعاً على المصالح الاقتصادية؛ بل هو صراع قيم. وأخيراً من المهم أن ندرك أننا في عصر التحولات الكبرى بين الإنسان والعالم إلى علاقة صراعية من أجل القضاء على المبادئ الرفيعة والثوابت الأخلاقية والقيم العليا، سواء مثالية أو مادية، والأيام مملوءة بالشواهد، وحبلى بالمفاجآت.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yt42xeab

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"