الجنون والأدب

03:35 صباحا
قراءة دقيقتين
علاء الدين محمود

لئن كانت الفلسفة قد اهتمت بالعقل، وجعلته في مركز تفكيرها وبحثها وتأملاتها، وعملت على تكوين وتشكيل المفاهيم المتعلقة به، وانصرفت نحو دراسة نظرياته، فإن نقيض العقل، وهو ظاهرة الجنون، لم تجد من الفلاسفة الإغراء الكافي أو الشغف الذي يجعلهم يبحثون في عوالمه ومجاهله، فمنذ الانطلاقة الحقيقية للفلسفة في العصر اليوناني، كانت مسألة العقل والمنطق حاضرة بقوة إلى حد تعريف الإنسان من قبل الفيلسوف أرسطو بالحيوان الناطق، في حين صمتوا عن الجنون إلا من إشارات عابرة، على الرغم من أن كثيراً من هؤلاء الفلاسفة كانوا ضيوفاً على عيادات الأمراض النفسية، ونذكر منهم نيتشه، وكيركيجارد، وفتجنشتاين، وجان جاك روسو، وغيرهم.

وربما كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو هو من أكثر الفلاسفة الذين تعمقوا في هذه القضية، حيث أخضعها لحفرياته في مؤلفه «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، والذي هو عبارة عن رصد تاريخي للأفكار والممارسات والمؤسسات والفنون والآداب المتعلقة بالأزمات النفسية في التاريخ الغربي، وربما كان هذا الاهتمام المتأخر بالجنون من قبل الفلاسفة المعاصرين، نسبة لكونه يعد الآن مرض هذا العصر الذي يعاني الجميع ثقل وطأته، والملاحظ أن اهتمام فوكو كان منصباً بصورة خاصة على صلة الأمراض النفسية بمجالي الأدب والفنون، وهذا ما يشير إلى حقيقة العلاقة التي يقيمها الكثيرون بين الجنون والإبداع.

والحقيقة أن الجنون في الأدب حالة معقدة بالفعل، ونشير هنا إلى تناوله وتوظيفه في الكتابات الأدبية، وفي ذات الوقت، إلى الأدباء الذين عانوا بالفعل أعراضاً نفسية مثل ريلكة، ودوستويفسكي، وجي دو موباسان، وكافكا، وفيرجينيا وولف وغيرهم. ولعل من أشهر المؤلفات التي تناولت لحظات جنون الأدباء كتاب «العبقرية والجنون في الرسم والموسيقى والأدب» للكاتب فيليب برينو، والذي يطرح من خلاله العديد من التساؤلات المتعلقة بشخصيات مؤثرة في مجال الأدب زارتهم لحظات الهذيان والاعتلال النفسي، حيث إن العبقرية لدى هذه الشخصيات الاستثنائية تجاورت مع الجنون، ويفترض الكتاب كذلك أن النشوة الإبداعية للمبدعين الكبار قد اختلطت في بعض الأحيان بالاكتئاب النفسيّ والحزن العميق، ويحاول المؤلف أن يبحث عن تفسير الأزمات والهلوسة التي كان يمرّ بها رامبو عندما كتب «فصل في الجحيم»، وسرّ الحالات العُصابية الاكتئابية التي كان يمرّ بها جوته، والقلق الهائل الذي كان يعانيه كافكا.

ولئن ولّدت لحظات الجنون عند بعض الكتاب إبداعاً وأدباً، كذلك كان الأمر مع توظيف شخصيات تعانيه في الأعمال الإبداعية لكثير من المؤلفين، وكأن الهذيان عند أبطال بعض الروايات، كان بمثابة لحظة أراد الكتّاب من خلالها أن يبثوا أفكارهم في الكثير من القضايا المعقدة والشائكة على لسان شخص مجنون، على نحو ما فعل الكاتب الأسباني ثربانتس عندما صنع شخصية دون كيشوت.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"