الحركة الالتفافية في سياسة ماكرون

03:33 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول

ما كان أحد يعرف إلى أين يمكن أن يقود إيمانويل ماكرون سياسة بلاده الخارجية، فقد أبدى حرصاً على إشاعة الغموض خلال حملته الرئاسية، لكأنه يتحسس خطواته أو يستكمل السياسة الخارجية لسلفه فرانسوا هولاند، حتى إذا ما دخل إلى قصر الإليزيه ارتدى ملابس الرؤساء الكبار، وأعلن عن نيته إعادة فرنسا إلى المربع الأول في العالم، بعد أن ذوت في عهد سلفيه نيكولا ساركوزي و فرانسوا هولاند.
قال ماكرون إنه يريد سياسة خارجية على غرار رؤساء فرنسا الكبار، الجنرال شارل ديجول والرئيس فرانسوا ميتران، وكلاهما ترك بصمات تاريخية على الصعيد الدولي، فقد تخلص الأول من تركة فرنسا الكولونيالية في الجزائر، وطرد القواعد العسكرية الأمريكية من بلاده، ونقلها من موقع التحالف الأحادي مع «إسرائيل» إلى موقع الحياد في حرب يونيو/ حزيران عام 1967، وطوى صفحة الحرب العالمية الثانية مع ألمانيا، وعمل مع المستشار أديناور على إرساء قواعد الاتحاد الأوروبي المقبل، ضمن تصور لأوروبا مستقلة.. إلخ.
على الرغم من انتخاب رئيسين بين ديجول وميتران هما جورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان، فإن السياسة الخارجية الفرنسية لم تعرف انطلاقة جديدة ومميزة إلا في عهد الرئيس فرانسوا ميتران، الذي بدا لاعباً أساسياً في تصفية آثار الحرب الباردة، ولعب دوراً كبيراً في حرب الكويت إلى جانب الولايات المتحدة، وعمل على تمتين التحالف الألماني الفرنسي عبر صداقته الشهيرة مع المستشار الألماني هلموت كول، وبالتالي تدعيم البناء الأوروبي عبر عدد من الاتفاقيات التي انتهت إلى إنشاء العملة الأوروبية الموحدة واتفاقيتي شينغين وماستريخت.. كما أنه استوعب بعد تردد إعادة توحيد ألمانيا، وتوظيف قدراتها في المشروع الأوروبي..
لم يذكر ماكرون جاك شيراك الذي خلف ميتران، على الرغم من وقوفه بجرأة ضد الحرب الأمريكية على العراق عام 2003، إلا أنه عاد من بعد ليؤكد على صواب هذا الموقف، عندما صرح بعيد انتخابه أنه لو كان رئيساً في حينه لاعتمد الموقف نفسه، ولرفض من بعد التدخل في الحرب الليبية، ولامتنع عن التدخل في الحرب السورية، في إشارة إلى ساركوزي وهولاند.
السير على خطى ديجول وميتران لم يُفضِ حتى الآن إلا إلى مواقف استعراضية، بعضها يعود إلى نابليون بونابرت في توقه إلى العظمة. وأعني بذلك استقباله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قصر فرساي الذي بناه الملك لويس الرابع عشر، في وقت كان سلفه قد رفض تدشين كنيسة ومركز ثقافي أرثوذكسي مع بوتين، وامتنع عن تسليم فرنسا فرقاطتين كانت قد دفعت ثمنهما بحسب عقد سابق.

من القطيعة الفرنسية الروسية إلى الحديث عن تعاون مشترك بين البلدين في العديد من القضايا الدولية طوى ماكرون سياسة سلفه بلقاء واحد. من بوتين انتقل ماكرون إلى ترامب الذي دعاه إلى الاحتفال بمرور مئة عام على اشتراك الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب فرنسا وبريطانيا في الحرب العالمية الأولى، وحرص على لقاء الرئيس الأمريكي حول قبر نابليون بونابرت، وعلى دعوته إلى العشاء في مطعم «برج إيفيل» الذي يشرف على باريس، والذي أنشئ بمناسبة المئوية الأولى للثورة البرجوازية الفرنسية.

من بوتين وترامب إلى محمود عباس الذي استقبله ماكرون تمهيداً لاستقبال بنيامين نتنياهو المعزول دولياً، وكرم رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بتنظيم احتفالية خاصة ب «فيل ديف»، حيث قامت السلطات الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية باعتقال آلاف اليهود وتسليمهم إلى المحتل النازي، وكرر في هذه المناسبة ما أعلنه شيراك من قبل من أن فرنسا تتحمل مسؤولية الظلم الذي أصاب «مواطنيها اليهود» وليس نظام الماريشال بيتان حصراً.

هذه الحركة الالتفافية في السياسة الخارجية الفرنسية تنطوي على طموح بارز، لكنها تحتاج إلى الاندراج في سياق أوسع متعلق بالولايات المتحدة من جهة وروسيا من جهة أخرى، في هذا الإطار يلاحظ أن واشنطن تعيش اضطراباً غير مسبوق في سياستها الخارجية يربك حلفاءها، لا بل يبادر الرئيس ترامب إلى خطوات مؤذية للغربيين، كانسحابه من اتفاقية باريس لمكافحة الاحتباس الحراري، والتي تمكَّن الغربيون من فرضها على العالم، واعتبر ذلك انتصاراً مهماً على الصين، ناهيك عن حديثه المتواتر عن وجوب تحمل الألمان كلفة أكبر في الحلف الأطلسي، وانتقاده ألمانيا «التي تبيع ملايين السيارات في الولايات المتحدة» على حد تعبيره، وتشجيعه الدول الأوروبية على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي على غرار بريطانيا..

الاضطراب الأمريكي يتيح فرصة ذهبية للرئيس الفرنسي للاقتراب من روسيا، والعمل معها في عدد من الملفات الدولية ومن بينها الملف السوري، دون الابتعاد كثيراً عن الولايات المتحدة، الأمر الذي يذكرنا بفترة الحرب الباردة وسياسة ديجول الخارجية التي لا تتنكر للحليف الأمريكي، لكنها تقترب من القطب الروسي، بكلام آخر الإفادة من هامش واسع للمناورة تعذر وجوده بعد انهيار الحرب الباردة.
يضمر ماكرون سياسة خارجية طموحة، لكنه يحتاج إلى وسائل متناسبة مع أهميتها، وهذا ما يصعب تأكيده تماماً، الأمر الذي يخفف من الطموح المرجو، ويبقي على الطابع الاستعراضي الذي استغله ماكرون إلى أقصى الحدود لتعويض جهل العالم به.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"