انقسام الطوائف.. ووحدة الوطن

03:07 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. رغيد الصلح

مع استمرار الصراعات المسلحة وتفاقمها في المنطقة العربية، تطغى النزعات المتشائمة التي تتوقع أن تحوّل الحروب والنزاعات المستعرة في المنطقة العديد من دولها الحالية إلى شظايا متطايرة وهشة. ومصدر التشاؤم لا يكمن بالضرورة في احتمال تفكك الكيانات السياسية في المنطقة إلى دول صغيرة، إنما يعود التشاؤم إلى أنه ليس هناك من ضمانة بأن تكون الكيانات الجديدة، صغرت أم كبرت، أكثر قدرة من الكيانات الراهنة على بسط السلام فيما بينها. بالعكس، هناك تخوف من أن تؤدي الحروب المتفاقمة إلى إضافة حوافز جديدة ومسوغات إضافية إلى مسببات الحروب والاقتتالات الحالية.
يميل أصحاب هذه النزعة المتشائمة عادة إلى الربط بين نمو ولاء الأفراد في دول المنطقة إلى مكونات هذه الدول، على حساب الولاء للأوطان. بتعبير آخر، تحل الشوفينية، بسائر أشكالها، محل الرابطة الوطنية. ولقد شهدنا ونشهد اليوم تجليات وأمثلة عديدة على هذا النهج. فقبل فترة وجيزة اطلعنا على تصريح لرئيس حكومة سابق لإحدى الدول العربية يقول فيه إنه يضع ولاءه لطائفته قبل ولائه للدولة! ومن المرجح، كما يقول المتشائمون، أن نسمع المزيد من هذه التصريحات، وأن تقترن بالمزيد من التعصب إذا ما استمرت الحروب وإذا اتجهت إلى المزيد من التصعيد.
نقف في هذه الحال أمام دوامة لا تنقطع. فالاقتتال يخلف التعصب، وانتشار التعصب والتشنج، والخوف والتخويف من الآخرين يوفر المناخ الأفضل للعنف والدمار. فكيف يمكن الخروج من هذه الدوامة؟ يعتقد البعض، خلافاً لما يعتقده أصحاب النظرات المتشائمة، أن الدواء قد يكون في بعض الحالات موجوداً في الداء نفسه. ففي أغلب الأحيان يواجه الفاعل السياسي في الديمقراطيات الناشئة منافسة من قبل طامحين ينتمون إلى نفس المكون المجتمعي الذي ينتمي إليه. وحتى يتغلب هذا الطامح على منافسيه عليه أن يبرهن أنه أشد إخلاصاً وأكثر ولاء للقاعدة التقليدية التي ينتمي إليها من خصومه.
هكذا يساهم الفاعل السياسي في إذكاء الصراعات الفئوية حتى ولو لم يكن هو من المتعصبين للبيئة التقليدية التي جاء منها. فإذا انتقل هذا الفاعل السياسي من الدائرة المحلية إلى الدائرة الوطنية تتوفر له فرصة إطفاء الصراعات التي ساهم آنفاً في إذكائها. ذلك أنه يحتاج هنا إلى بناء التحالفات الواسعة التي تستقطب العدد الأكبر من المؤيدين ومن الزعماء البارزين، وتعبئ نسبة أوسع من الطاقات والإمكانات المادية التي تسمح له بانتزاع المبادرة من منافسيه والوصول إلى السلطة السياسية.
إن بناء مثل هذه التحالفات الواسعة يقتضي مدّ يد التعاون إلى خارج الجماعة التي جاء منها الفاعل السياسي. وحتى تلقى الدعوة إلى بناء التحالف ردود الفعل المناسبة لا بد من أن ترافقها تنازلات جدية يقدمها ذلك الفاعل السياسي، وأن تقترن التنازلات المعلنة بالأفعال والمبادرات العملية، وأن تستمر لأمد من الزمن حتى يظهر مفعولها وتطمئن الأطراف المعنية إليها وإلى أصحابها، فإذا ترسخت هذه العروض وبانت جديتها، وإذا رافقتها ولو في مسارات موازية مبادرات مماثلة ينفتح الطريق أمام بناء تحالفات عابرة لسائر المكونات المجتمعية، أي لتأسيس كيانات أو أحزاب وطنية من حيث الولاء، وديمقراطية من حيث الأساليب والمسالك. فهل تشهد ساحات الاقتتال في المنطقة العربية سيناريو من هذا النوع؟
يعرب بعض الأصدقاء من متابعي أحوال المنطقة العربية عن ترددهم في قبول هذا النهج في تحليل الأحداث الجارية في المنطقة، ولكنهم يقولون في نفس الوقت إن ما يجري في العراق اليوم هو الأقرب إلى السيناريو المشار إليه أعلاه. ففي هذا السيناريو إن المجتمع العراقي أصبح اليوم منقسماً إلى ثلاث كتل بشرية هي: الشيعة العرب، والسنة العرب، والأكراد. وإلى وقت قريب كان المجتمع السياسي في العراق منقسماً إلى ثلاثة كيانات، شيعية وسنية وكردية، إلا أن هذه الكيانات الأخيرة آخذة في التفكك وفي التحول باتجاهات متباينة. ففي الطائفة الشيعية يبرز تباين بين الذين يؤكدون أولوية العلاقات المميزة الإيرانية - العراقية، وبين الذين يؤكدون الولاء للعراق. الممثل الأهم للتيار الأول يبدو وكأنه نوري المالكي، أما الممثل للتيار الثاني فالأرجح أنه مقتدى الصدر. وفي المكون الكردي يبرز تباين مهم بين الذين يدعون إلى الانفصال عن العراق وعلى رأسهم رئيس الإقليم مسعود البارزاني، مقابل حزب الاتحاد الوطني بزعامة جلال الطالباني وحركة التغيير بزعامة مصطفى نوشيروان اللذين لا يؤيدان هذه الدعوة في الظروف الراهنة. أما الطائفة السنية فلقد بدت خلال الأزمة الأخيرة المتعلقة بالفساد وكأنها انقسمت بين مؤيدين لأسامة النجيفي، رئيس مجلس النواب السابق، ولسليم الجبوري، رئيس المجلس الحالي. فهل نشهد في المستقبل القريب أو المتوسط اتجاهاً إلى تكوين تكتل سياسي مستقر يدعو إلى عراق وطني ديمقراطي فيدرالي (حقاً وليس فيدرالياً شكلاً وكونفيدرالياً في الجوهر؟). إن العراقيين هم الأكثر استبعاداً لوقوع مثل هذا الاحتمال. ولكن هذا لا يمنع أن يحاول العراقي أن يجد الداء في الدواء، وأن يشجع الزعماء العراقيين على التخلي عن المكونات التقليدية، وأن يساهموا في تعبيد الطريق أمام قيام عراق عصري وناهض.
يساهم الفاعل السياسي في إذكاء الصراعات الفئوية حتى ولو لم يكن هو من المتعصبين للبيئة التقليدية التي جاء منها

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"