رمزية المساعدات العسكرية الأمريكية إلى لبنان

03:42 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. رغيد الصلح
تعرضت الولايات المتحدة في لبنان إلى نكبات، وخسائر بشرية ومادية كثيرة، كان من بينها خلال الثمانينات مقتل أحد سفرائها في بيروت، ونسف سفارتها في العاصمة اللبنانية، ومقتل 241 من العسكريين الأمريكيين قرب مطار بيروت الدولي، ومقتل رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت مالكولم كير، فضلاً عن التهديدات الكثيرة الموجهة إلى الموظفين والزوار الأمريكيين الذين يأتون بيروت، وهي تهديدات تضطر واشنطن، بين الحين والآخر، إلى توجيه النصح إلى رعاياها بتجنب السفر إلى لبنان.
وهكذا، لو شاءت الإدارة الأمريكية محاسبة لبنان على ما حل بها بسبب النكبات والنكسات لكان باستطاعتها العودة إلى هذا السجل. وسواء فعلت ذلك أو لا، فإن الأمور مرهونة بخواتيمها، والسياسات تتغير في عالمنا الراهن بسرعة كبيرة، خاصة سياسات الدول الكبرى التي تخول نفسها التدخل في شؤون الدول الأخرى، خاصة الصغيرة منها، مثل لبنان. فأين السجل القديم مما شهدناه قبل أيام في لقاء السفيرة الأمريكية إليزابيث ريتشارد في لبنان، بقادة الجيش اللبناني، وفي تسلم لبنان شحنة من المساعدات العسكرية الأمريكية؟
لقد قدمت السفيرة الأمريكية هذه المساعدات باسم بلادها تعبيراً عن التزام بلدها الدائم، بتوفير الدعم الذي يحتاج إليه الجيش اللبناني. وفي معرض تفسيرها لتقديم المساعدة، نوهت ريتشارد بتفاني الجنود والمواطنين اللبنانيين في الدفاع عن بلدهم، وبكفاءة قيادة الجيش في الاضطلاع بمهامها. وتشجيعاً للبنان على مواصلة تصديه للإرهاب الدولي فقد أعربت ريتشارد عن استعداد بلادها لتقديم المزيد من الدعم للجيش اللبناني في إطار الشراكة التي تجمع البلدين. فإلى أيّ مدى يمكن للولايات المتحدة أن تذهب في هذه السياسة؟
للمساعدات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة إلى أي بلد عربي هدف بديهي، ألا وهو خدمة الأهداف العسكرية المشتركة للطرفين، وهي احتواء العدو المشترك، أي الإرهاب الدولي تحديداً، تمهيداً للقضاء عليه. وإذ تقدم واشنطن الدعم إلى لبنان، أو إلى غيره من الدول العربية، فإنها تفعل ذلك مع التأكد بأن مثل هذه المساعدات لن تؤثر البتة في موازين القوى العربية - «الإسرائيلية». هذا ينطبق بالتأكيد على شحنة المساعدات العسكرية الأخيرة التي تضمنت عربات الهامفي، ومدافع هاوتزر، وكميات الذخيرة الصغيرة والمتوسطة التي تصل قيمتها إلى 50 مليون دولار. فهذه المساعدات تبدو كأنها مجرد ألعاب نارية بالمقارنة مع المساعدات العسكرية التي تعتزم واشنطن تقديمها إلى «إسرائيل» خلال السنوات العشر المقبلة التي سوف يصل مقدارها إلى ما يفوق الأربعين مليار دولار. إن الفارق بين حجم المساعدات التي تقدمها واشنطن إلى «إسرائيل»، وبين حجم المعونة العسكرية إلى لبنان يترجم بالأرقام الفوارق الجسيمة بين نظرة النخبة الأمريكية إلى «إسرائيل»، ونظرتها إلى لبنان.
في هذه النظرة، فإن «إسرائيل» هي «معجزة تكشفت» منذ إعلان قيامها قبل 60 عاماً، كما وصفها الرئيس باراك أوباما إبان زيارة قام بها عام 2008 إلى «إسرائيل». وفي هذه الزيارة أكد أوباما التزامه بأمن «إسرائيل» واستقرارها، واستعداده غير المحدود، سواء كان في قصر الرئاسة أو في الكونغرس، أو كمواطن عادي، لدعمها ومساندتها. إن قيمة هذه التصريحات والتأكيدات تعبر عن موقف الرئيس الأمريكي، ولكنها في الوقت نفسه تصدر عن زعيم أمريكي لا ينفك الزعماء «الإسرائيليون» يشككون في موقفه المؤيد ل«إسرائيل». وينطوي هذا التوصيف لموقف أوباما على شيء من الصواب، إذ إنه مع استعداده لتأييد «إسرائيل» إلى أبعد حد ممكن، فإنه لا يذهب في تأييدها إلى حد تقديم مصالح «إسرائيل» على مصالح الولايات المتحدة نفسها.
لقد دأب الأمريكيون المؤيدون ل«إسرائيل» على تبرير موقفهم هذا بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. ويشكو هذا التبرير من نواقص كثيرة، فهو يتجاهل الطابع العنصري ل«إسرائيل»، وحتى إذا أقر بطابعها العنصري فإنه يبرر ل«إسرائيل» هذا الطابع. فضلاً عن ذلك فإن هذا الموقف يتجاهل الطابع الديمقراطي للبنان، وحرص اللبنانيين على التمسك به. وقد حرص اللبنانيون على نظامهم الديمقراطي حتى خلال الستينات والسبعينات، عندما كانت الشكوك تحيط بالأنظمة الديمقراطية في العالم الثالث، وبقدرة هذه الأنظمة على حماية مصالح الشعوب واستقلالها وتطلعاتها التنموية. وفي أيامنا هذه، فإن المساعدات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة إلى لبنان لن تلقى من اللبنانيين التقدير الذي يتوقعه الأمريكيون ما لم تقترن بالاعتراف بالديمقراطية اللبنانية، حتى لو كانت ناقصة، وبحاجة إلى علاج. كما أن هذه المساعدات لن تلقى التقدير الذي تستحقه إلا عندما تقترن بنظرة عادلة ومنصفة إلى الصراع اللبناني - «الإسرائيلي»، أي إلى مراجعة شاملة لحوافز وأهداف السياسة الأمريكية تجاه طرفي النزاع.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"