عودة الحرب الباردة

05:32 صباحا
قراءة 4 دقائق
د . مصطفى الفقي
أعادت إلينا المصالحة المفاجئة بين "الولايات المتحدة الأمريكية" و"كوبا" بعض ذكريات الحرب الباردة وسنواتها الصعبة، فمازلنا نتذكر أزمة "خليج الخنازير" في بداية ستينات القرن الماضي ورئيس الوزراء الروسي "نيكيتاخروشوف" وهو يواجه خصمه حينذاك الرئيس الأمريكي "جون كيندي" بصورةٍ وضعت العالم على حافة الهاوية أو على شفا مواجهةٍ عسكرية وحرب حقيقية، تذكرنا كل ذلك معتقدين أن أجواء "الحرب الباردة" قد ولّت وأن آثارها قد زالت مع الزمن .
إنني مازلت أتذكر ذلك الحدث الذي جرى عام 1962 عندما بدأ الحصار حول "كوبا" ووقفت البشرية على أطراف أصابعها تخشى من أن تتحوَّل "الحرب الباردة" إلى "حرب ساخنة"، وعندما مرت الأزمة من دون تراشق بالصواريخ كما توقع الكثيرون وقتها فإننا قد حسبنا أن عصر "الحرب الباردة" قد أصبح يحول دون وقوع "حرب عالمية ثالثة" وأن الأجواء الدولية مهيأة للحروب الإقليمية المحدودة من دون الوصول إلى المواجهة الشاملة، ثم تحولت "الحرب الباردة" بعد سقوط حائط "برلين" وانهيار "الكتلة الشيوعية" بسقوط "الاتحاد السوفييتي السابق" حتى أصبح المناخ الدولي قادراً على أن يطرح أفكاراً جديدة في مقدمتها "العولمة" وصولاً إلى "الحرب على الإرهاب" مروراً بنظرية "صراع الحضارات"، وبذلك بدأنا مرحلة حوار "الأفكار" على الساحة الدولية إلى أن ظهرت "الحرب الباردة الاقتصادية" لتغطي الصراعات المكتومة حين حققت مباحثات "الجات" نتائجها ثم ظهرت "منظمة التجارة العالمية" إيذاناً بمرحلة جديدة قد يختلف فيها الحلفاء على ضفتي "الأطلنطي" حول المصالح المتضاربة والاقتصاديات المتنافسة، وتصوَّر معظم خبراء الشؤون الدولية أننا دخلنا مرحلة التهدئة وخفوت حدة الصراعات إلى أن جاء على قمة "روسيا الاتحادية" رجل موسكو القوي "فلاديمير بوتين" الذي يحاول أن يعيد لبلاده مكانتها ويسترد لها هيبتها، وهنا نطرح الملاحظات الآتية:
* أولاً: إن الزعامة الروسية في "الكرملين" لرجل استخبارات سابق يرفض أن تفرض على بلاده سياسات لا تقبلها، لذلك مضى الرجل في أسلوب التحدي المباشر ليؤكد "للولايات المتحدة الأمريكية" وحلفائها أن "لروسيا الاتحادية" مجالاً حيوياً يتعيَّن احترامه والتوقف عن التدخل في شؤونه، ولقد حاول الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية توقيع عقوبات اقتصادية على "روسيا الاتحادية" باعتبار أن ذلك هو السلاح الأقوى في تلك الظروف فجرت عملية تخفيض الأسعار العالمية للبترول في محاولةٍ للإيقاع بالاقتصاد الروسي تأديباً لحاكم "الكرملين" على مواقفه في العامين الأخيرين سواء في "أوكرانيا" أو في "شبه جزيرة القرم" أو غيرها .
* ثانياً: إن أوضاع "الشرق الأوسط" تبدو هي الأخرى قضية خلافية حادة بين "الروس" و"الأمريكيين" خصوصاً حول "المسألة السورية" التي يرى فيها "بوتين" محاولة لاقتلاع آخر المعاقل الاستراتيجية للوجود الروسي في المنطقة، إذ إن المعروف هو أن للروس قاعدة بحرية في "اللاذقية" لذلك استخدمت "روسيا" وزنها الدولي وحق "الفيتو" في "مجلس الأمن" لحماية الرئيس "بشار الأسد"، ولكننا لا نظن أن ذلك أمراً مطلقاً إذ إن لحرص "موسكو" على الرئيس "الأسد" حدوداً معينة ولاشك في أن تطورات الموقف في "الشرق الأوسط" وتداعياته الخطيرة قد أدت إلى قدر كبير من التوتر في العلاقات الدولية عموماً والإقليمية خصوصاً، كما أن ظهور التنظيمات الإرهابية الجديدة قد ترك بصمة كبيرة على بوادر الحرب الباردة التي بدأت تطل برأسها على العلاقات الدولية الحالية واضعين في الاعتبار وجود أطرافٍ إقليمية ذات أدوار محددة في "الشرق الأوسط" من أبرزها "إيران" الحليف الحالي لنظام "الأسد" و"تركيا" التي تعادي ذلك النظام بشدة، فضلاً عن الدولة العبرية "إسرائيل" التي ترقب المشهد كله في سعادةٍ ورضا لأنها سوف تجني ثماره ولو بعد حين .
* ثالثاً: إن اختفاء حركة "عدم الانحياز" أو خفوت نغمتها على الأقل مع تراجع سياسة "الحياد الإيجابي" قد أدى إلى خلو الساحة الدولية من عناصر التهدئة والتلطيف حيث أصبحنا أمام عالمٍ يتصارع فيه الأقوياء على أرض الضعفاء ولم تعد هناك تحالفاتٌ سياسية تصلح لأن تكون تعبيراً يمكن من خلاله لعب دورٍ كان من الممكن أن تمارسه دول الجنوب وهي ترقب الصراعات بين دول الشمال المتقدم على حساب المصالح الراهنة للدول الصغيرة، فلم يعد في العالم المعاصر قيادات من الجنوب مثل تلك "النجوم اللامعة" التي كانت موجودة بعد منتصف القرن الماضي لذلك فقد أصبح طبيعياً أن نرقب غروب حالة السلم الدولي التي سيطرت على العالم المعاصر لعدة عقود ونرى أن "شهر العسل" الذي امتد بين "موسكو" و"واشنطن" لقرابة "ربع قرن" قد بدأ هو الآخر يلملم أوراقه ويتجه إلى مستقبلٍ حافل بعناصر المواجهة وأسباب التوتر .
* رابعاً: إن التطور التكنولوجي والتميز المعلوماتي يمثلان نقلة نوعية تنعكس على شكل العلاقات الدولية المعاصرة، فلم تعد هناك حواجز تحول من دون خروج الأخبار أو تداول المعلومات، لم يعد هناك "ستار حديدي"، لم تعد التنكولوجيا الأمريكية قادرة على إيقاف تدفق الآراء والدراسات عند اللزوم بالإضافة إلى وجود عامل "الحرب الإلكترونية" ويكفي أن نتذكر أن "واشنطن" بتفوقها العلمي الكاسح قد عطلت جميع "شبكات المعلومات الإلكترونية" في "كوريا الشمالية" عقوبة لحاكمها بسبب تجاوزه في انتقاد مؤسسات إعلامية أمريكية حاولت أن تكشف الغطاء عن تلك الدولة الغامضة في ذات الوقت، ولا يقف تأثير التقدم التكنولوجي عند هذا الحد بل يتجاوزه ليصبح عنصراً ضاغطاً على مراكز صنع القرار في عالم اليوم .
. . هذه رؤية تحاول أن تكون كاشفة لاحتمالات المستقبل وما ينطوي عليه من تأثيراتٍ على روح العصر وأدواته . . إنني أرى في الأفق القريب ملامح لعودةٍ محتملة للحرب الباردة التي كنَّا نتصوَّر أنها قد غادرت المسرح الدولي منذ أكثر من عقدين من الزمان .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"