في ترحيل مشاريع التعاون الإقليمي

05:40 صباحا
قراءة 4 دقائق
بعد أزمة اليورو الأوروبية، خيل للكثيرين أن التكتلات الإقليمية في العالم باتت على طريق الأفول وأنها لن تتكرس كلاعب رئيسي على المسرح الدولي . وترسخت هذه القناعات إذا تزامن مع أزمة اليورو تراجع في عمل بعض المنظمات الإقليمية الأخرى مثل سوق أمريكا الجنوبية المشتركة - ميركوسور حيث عادت الأرجنتين إلى تطبيق بعض الإجراءات الحمائية ضد شركائها في السوق، وتعثر في عمل رابطة دول جنوب شرق آسيا-آسيان . ولكن تبدو منطقة اليورو وكأنها تجتاز مرحلة الخطر والتصدع . بالعكس إنها تتجه إلى تعميق اللحمة بين دولها . إضافة إلى ذلك فإن الأزمة الأوكرانية أكدت من جديد أهمية التكتلات الإقليمية في العالم حيث إنها بدأت بصراع بين تكتلين على مستقبل أوكرانيا: من جهة، الاتحاد الأوروبي الذي قدم عرض شراكة إلى كييف، ومن جهة أخرى، الاتحاد الأوراسي الذي يعمل بوتين على تأسيسه آملاً بضم أوكرانيا عضواً أساسياً فيه .
ومع عودة الأهمية إلى المنظمات الإقليمية، فإنه من المتوقع أن تشتد المنافسة بين الدول على تكوين التكتلات الإقليمية، من جهة، وأن تفتش دول أخرى على وسائل إفشال وإحباط بعض مشاريع الأقلمة، من جهة أخرى . وتستطيع هذه الدول الأخيرة، في مساعيها لإحباط مثل هذه المشاريع، أن تتعلم الكثير من تجربة الدول العربية . فهذه الأخيرة تمتلك كل المقومات التي تؤهلها لتأسيس تكتل إقليمي نموذجي، ولكن تجربتها الإقليمية أصبحت أقرب إلى أن تكون "مدرسة" لفشل التعاون الإقليمي بدلاً من نجاحه . وبالاعتماد على هذه "المدرسة"، يمكننا التقدم أي من يهمه الأمر من الراغبين في إفشال التكتلات الإقليمية بالنصائح التالية:
* أولاً، اتخاذ قرارات من دون تنفيذها:
عند بحث مشاريع القرارات، قد يجد مندوب الدولة نفسه أمام قرار يتعارض مع مصلحة بلده، أو مع السياسة التي يتبعها أصحاب القرار، أو حتى مع اجتهاده الشخصي . من الطبيعي في هذه الحالة أن يقف ضد مشروع القرار وأن يعمل على إفشاله . إذا لم ينجح في إقناع أغلبية المشاركين في الاجتماع بوجهة نظره، وإذا طرح المشروع على التصويت فإنه من المتوقع أيضاً أن يصوت ضد القرار . إذا كان المندوب إياه عضواً في الاتحاد الأوروبي أو ميركوسور أو في آسيان، فإن الضرورة تقضي بأن يصوت حسب التعليمات المعطاة إليه . إذا كان يعمل في إطار مؤسسات العمل العربي المشترك، فإن الضرورة تقضي أيضاً بأن يصوت حسب التعليمات . ولكن لا بأس من أن يتذكر المرء هنا أن القرار شيء والتنفيذ شيء آخر .
* ثانياً، تنفيذ القرارات ولكن من دون مراقبة:
إن القرار، كما هو الأمر في الجامعة العربية يلزم مَن يقبل به، أما الذين لا يقبلون به فهم أحرار في تنفيذه أو عدم تنفيذه . أما من يقبل بالقرار ولا يلتزم به فإنه يضع نفسه في مأزق . ولكن هذا المأزق نظري لأن في مؤسسات العمل العربي المشترك آليات المراقبة والمتابعة هشة هذا إذا وجدت في الأساس . لقد أوجدت القمة العربية عام 1964 هذه الآليات، ولكن تم التخلي عنها تدريجياً . ثم إن السلطات المعنية هي التي تعين آليات المراقبة - إذا وجدت - ومن المرجح أن آليات المراقبة هذه لن تجد أي مبرر للشكوى من ضعف التنفيذ أو غيابه الكلي .
* ثالثاً، التدرج والابتعاد عن التسرع:
من المستحسن تجنب الاستعجال في ترحيل التكتلات الإقليمية . فالاستعجال في تفكيكها يماثل التسرع في بنائها . كلاهما يؤدي إلى العنف والحروب والمنازعات المسلحة . في المقابل فإن التأني في طي صفحة هذه التكتلات يشابه التدرج في الوصول إليها . إنه أقل كلفة وأيسر تحقيقاً وأرسخ نتائج . فلنتذكر أن الكونفدرالية التي أقامها الأمريكيون في جنوب الولايات المتحدة لم تندثر عندما حاول الشماليون القضاء عليها دفعة واحدة، بل انهارت عبر حرب كلفت الأمريكيين غالياً في الخسائر البشرية والمادية . أما حلف وارسو، الذي قاومه الأطلسيون بالحرب الباردة فقد انهار وتفكك من دون أن يكلف العالم حرباً عالمية أو قارية .
* رابعاً- الاستعانة بالجديد على تفكيك القديم:
كثيراً ما حاول الذين يعارضون مشروعاً من مشاريع التكتل الإقليمي إجهاضه عن طريق شحذ عصبية الدولة الوطنية/الترابية ضده . هذه الطريقة كانت محفوفة بالأخطار إذ إنها تتحول إلى صراع غير متكافئ بين تكتل يضم العديد من الدول، من جهة، وبين دولة واحدة محدودة القدرة والإمكانات، من جهة أخرى . فضلاً عن ذلك، فإن تغذية العصبيات المحلية ضد التعاون الإقليمي لم تعد "موضة" مقبولة في عصر الأقلمة . إذا أردت النجاح في تفكيك تكتل إقليمي، فعليك الأخذ بما اقترحه أبو النواس عندما قال "داوني بالتي كانت هي الداء" . بتعبير آخر، طالب أو أيد تأسيس تكتل جديد وبديل خال من "نواقص" التكتل القديم مثل خطر التحول إلى تكتل جدي . إذا انتشرت هذه الدعوة تكتسب لقب المجدد وتنزع عن فكرة التكتل أي طابع فعال . إذا لم تنتشر هذه الدعوة انتشاراً قريباً، فإنها تعرقل ولو إلى حين نمو التكتل القائم .
* خامساً - مساواة الكلي بالجزئي:
عندما أسس جان مونيه مع فريق من السياسيين الأوروبيين الجماعة الأوروبية للفحم والصلب بدوا وكأنهم يركزون على هدف جزئي، ولكنه كان هدفاً كلياً واستراتيجياً يصلح كمركبة للسير على طريق بناء الاتحاد الأوروبي . الهدف البعيد المدى لم يغب عن جان مونيه بل كان يرافقه 24 ساعة كل يوم . أما مَن يملك الرغبة والعزم على إحباط تكتل إقليمي فعليه المساواة بين الكلي والجزئي من المشاريع وإغراق المشاريع البعيدة الامد والاستراتيجية بالخيارات والأنشطة العديدة التي تشتت الجهد وتستنزفه من دون أن ترتقي بالكتل إلى مستويات أفضل . ضروري التأكيد بأنه لا خطأ في هذه الخيارات، إلا عندما يطمس المهم الأهم . هذا ما يحصل عادة في العديد من المؤتمرات العربية حيث تزدحم جداول الأعمال بمشاريع قرارات عديدة بينما يكون المطلوب واحداً فحسب .
إذا لم تنجح هذه النصائح ولم تحقق النتائج المتوخاة منها، فإنه من المفيد الدراسة المتأنية للتجربة العربية في هذا المضمار، ففيها الغني من العبر والدروس في مجال تفكيك وترحيل أي مشروع واعد للتكتل الإقليمي .

د . رغيد الصلح

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"