البوسطجي . . راحل لا يذكره أحد

من يجمع أطراف سيرة الشاعر؟
02:30 صباحا
قراءة 5 دقائق
محمد الأسعد
وأنا أتصفح مواقع في شبكة الانترنت لفتَ نظري بلاغٌ صادرٌ عن المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية في العام ،2005 يعلن فيه أن المكتبة بصدد إصدار كتابٍ توثيقي عن الأديب العراقي الشهيد محمد طالب البوسطجي، ويطلب من كلّ ذي علاقة بهذا الأديب أن يقدم للمكتبة ما لديه من معلومات أو وثائق أو شهادات، جاء هذا وسط غبار سياسي واجتماعي وثقافي وعسكري كان يلف الوطن العربي من أدنى نقطة فيه إلى أقصى نقطة، تسوده لاعقلانية عجيبة ستدفع مفكراً من طراز "جورج طرابيشي" إلى القول إن العالم العربي/الإسلامي بشكل أعم يبدو مهدداً بالارتداد نحو قرون وسطى جديدة، أي عصر ظلام ثان لم يعد بالإمكان التردد بأن "نسميه عصر الردة" على حد تعبيره .
ما يربط بين البلاغ الجزائري والحدس بقدوم عصور مظلمة هي واقعة أن الشهيد المشار إليه هو الشاعر العراقي المنفي والمجهول محمد طالب البوسطجي أستاذ اللغة العربية في إحدى مدارس مدينة "الطاهير" الجزائرية، وكان سقط قتيلاً صامتاً برصاص الجماعات الإرهابية هناك وهو يهم بدخول مدرسته في أحد أيام العام 1994 . أي أنه سقط عند مفتتح عصر الظلمات والارتدادات الذي نشهده الآن، عصر فنون من الهمجية لم يحلم بها حتى همج العصور السحيقة .
لم يذكره أحد آنذاك سوى زوجه الجزائرية وأطفاله، وحتى أنا الذي زاملته خلال سنوات الدراسة المتوسطة في البصرة، مدينة النخيل التي ولد فيها في العام ،1943 واقتنيتُ أول مجموعاته الشعرية المنشورة تحت اسم "التسول في ارتفاع النهار" (1974)، لم تصلني هذه المعلومات إلا بعد عقد تقريباً . ففي تلك السنة التي اغتاله فيها أحد الهمج كنت متنقلاً بين المنافي بلا قرار، تأخذني رحلتي من مطار إلى مطار، وتسلمني مدينة عابسة إلى أخرى أشدّ عبوساً . وحين كنت أسأل عدداً من الأصدقاء، سواء ممن غادرتُ في قبرص وراء قضبان معتقل المبعدين، أوممن تركتُ في صوفيا متأهباً للتسلل عبر الحدود أو الانتحار القريب، عن صديقنا "البوسطجي"، لم أكن أجد لديهم سوى خبر رحيله المبكر، بعد إتمام دراسته الجامعية في كلية الآداب (1968)، للتدريس في الجزائر ضمن مشروع للتعريب بدأت السلطات الجزائرية بتطبيقه .
وتدريجياً بدأت أتعرف إلى طرف من حياته، على مجموعة شعرية ثانية له حملت عنوان "متاهات لا تنتهي" (1990) لم أصادفها في أي مكتبة أو موقع من مواقع شبكة الانترنت، ولكنني صادفتُ مقتطفاً منها كشف لي عن وجه مختلف له لم أعهده في مجموعته الأولى:
"في هذا المنفى الحافل بجذوع الأشجار المتحجرة/ منذ الحقب الأولى/ الحافلُ بالموتى والآبار الناضبة/ وأوهام صداع مطبق/ وحدائق مزروعة/ بالأحجار وبالنسيان وبالموت/ أتعرّى/ أغطسُ في الماءِ/ الراحل عبر البلدان/ في هجرتهِ العظمى/ لا من يذكرني/ غير الجسد المثقل بالأحلام" .
لم تكن هذه هي لغته الأولى المثقلة بأصداء معجمية، احتفاؤه باللغة التقليدية كان جهيراً إلى درجة سببت لي قلقاً على مستقبله الشعري آنذاك؛ لم تكن كلماته هي الأكثر إخلاصاً لكل ما حفلت به المعاجم من غريب الكلم فحسب، بل وتخيلاته أيضاً، فلم تغادر هذه أجواء الصحاري والوديان وحيوانات البراري، بل كانت تتردد في جنباتها وتلتصق بها بحميمية لا تخفى .
وتتطابق مع هذا المنحى سيرة الشاعر القصيرة التي نشرها معجم البابطين، والقصيدة الطللية المرفقة معها التي لقوافيها رنين ولوزنها المحكم متانة، ولكن سطور المقتطف التي أوردتها آنفاً تكاد تمحو هذه الصورة التي اختارها معجم البابطين، وتحل محلها صورة شاعر حقيقي جدير بهذه التسمية، أعني أن لغة المعجم التي طغت على بداياته، ورسخت ثقلها ربما دراسته الأكاديمية، لابد أنها في مرحلة من مراحل تغرّبه ثم عودته القصيرة إلى عراق سبعينات القرن العشرين، فهجرته النهائية، بدأت تفقد سيطرتها عليه، وتُخلي مكانها لتموجات ملموسة من عالمه المعاش وليس من عالم الكتب الجامعية . هنا لم تعد البحور الشعرية موضع اهتمامه، ولا السعي وراء القوافي حتى؛ وتفتح على عالم مختلف يهاجر فيه الإنسان كما الأنهار في هجراتها العظمى، لا يعنيه أن يذكره أحد سوى جسده المثقل بالأحلام . وهذه صور غير مألوفة في ماضيه؛ في مجموعته "التسول في ارتفاع النهار"، وغير مألوفة بعامة في المسارات الشعرية التي عرفتها غالبية شعراء سبعينات ذلك القرن الآفل، تلك الغالبية التي وقف بعضها على حافة غبار الظلمات القادم من دون أن يراه، ومن رآه فرّ يائساً إلى هذا المنفى أوذاك .
من سنوات الدراسة المتوسطة ظلت عالقة في ذهني صورة الزميل محمد طالب البوسطجي الساخر والمرح، حتى وهو يعلق على اسم الفيزيائي والكيميائي البريطاني "كافنديش"، فيعقب على تكرار الأستاذ للاسم: "هو كفن . . وديك أيضاً" . وستلازمني هذه الصورة طويلاً، ثم تتقاطع معها صورة أخرى، وقد جمعنا قطار ليلي في طريقنا إلى بغداد لاستكمال دراستنا، هو إلى كلية الآداب وأنا إلى كلية التجارة والاقتصاد؛ فيقول وهو يتناول منشفة ويهم بحلاقة ذقنه: " . . حتى لا ترانا بنات بغداد على هيئة سكان غابات" . لم نكن قادمين من غابة بالطبع، ولكن المسافات بين العواصم والمدن النائية لم تكن تقاس في تلك الأيام بالساعات والكيلومترات، بل بتعابير الريفي وساكن المدينة، والبدوي والفلاح، وهكذا سيجد الوافد إلى العاصمة للمرة الأولى عالماً مختلفاً، قد يتنافر مع تصوراته المسبقة، وقد يكون أقل ألفة، إلا أنه سيكون مصدر قلق في كل الأحوال، وفي كل الأحوال سيكون عليه أن يتنكر حين يدخله بزي ملائم لايعرضه للسخرية .
لم أعرف شيئاً عن تجربته الأولى في بغداد بعد أن تهيأ ليكون من سكانها بمنشفة وموسي حلاقة، لأن مجموعته الشعرية الأولى رددت أصداء المعجم الشعري كما قلتُ، ولأننا بعد تلك الرحلة الليلية افترقنا، ولم تجمعنا مناسبة رغم أن مبنى كليتي كان يواجه مبنى كليته .
هذه واقعة تثير دهشتي، فكثيراً ما زرتُ كلية الآداب، وكان لي أصدقاء فيها، أستعير بعض كتبهم، ونجتمع سوية حول طاولة نقاش، إلا أنني لم أصادف زميل الدراسة المتوسطة ورحلة القطار الليلية إلى بغداد، وأكاد أقول إنه غاب غياباً مطلقاً . إلى أن أعاده إلى ذاكرتي بقوة بلاغ مدير المكتبة الوطنية الجزائرية، وشبكة الإنترنت، وهذا المقتطف العجيب الذي أدهشتني روحه الشاعرية .
ما الذي حدث في ذلك المنفى؟ وهل وُجد من يجمع أطراف سيرة هذا الشاعر، من لديه علم بمكان قصائده وقصصه والروايات التي يقال إنه كتبها؟ هذه أسئلة لم أجد من يجيب عنها، فها هي المطابع لا تتوقف، وها هي الصحف تصدر، وها هم كتبة أخبار الشعراء والشاعرات، والفنانين والفنانات، يواصلون الكتابة، وها هي أمواج العنف والظلام التي تعصف بعالمنا كما فعلت وتفعل طوال أكثر من ثلاثة عقود حاضرة، ويتساقط الكثيرون قتلى وشهداء، بعضهم معروف وأغلبهم مجهول، ولا خبر عن هذا الشاعر . هل لأنه صمم على أن يتعرى ويغطس في الماء الراحل في هجرته العظمى غير آمل في أن يذكره أحد؟ وهل هذا هو حقاً مصير الشاعر الجدير بهذه التسمية في زمن الانحدار إلى عصور الظلام؟
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"