التفكر في الإسلام

13:32 مساء
قراءة 6 دقائق

هل نجد شريعة تحض على التفكير والتفكر وإعمال العقل والتدبر كالإسلام؟

إن التفكر أو التدبر في آيات الله من العبادات التي دعا إليها القرآن والسنة النبوية والسلف الصالح، إذ إنها من أولى العبادات الموصلة إلى الارتقاء بالمستوى الإيماني للمسلم المعاصر، ورغم ذلك هجرها الكثيرون مما سبب خللاً في الوعي الإسلامي . . إذ أصبحنا نهتم بأمور هي دون عبادة التفكر في الاعتبار الشرعي والفائدة المرجوة .

التفكر، هو التدبر والاعتبار والافتكار، وقيل هو عبادة تمارس بالقلب وتشترك فيها العين والتفكر: هو دراسة الأشياء وتحليلها، ومن ثم ربطها بالحقائق الموضوعية، بما يتناسب والعقل والمنطق الصحيحين، وبالتالي يتوافق ويتطابق مع العلوم الصحيحة على اختلافها، قال الرسول الكريم في حديث شريف وصحيح: لا عبادة كالتفكر، تفكر ساعة خير من عبادة ستين عاماً وفي رواية أخرى للحديث، سبعين عاماً .

لقد اندثرت للأسف عبادة التفكر وقليل جداً من يمارسها الآن، ولكن فعلها الانبياء وواظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت حياته حياة تفكر وتعبد لله . . قالت السيدة عائشة رضي الله عنها حبب إليه الخلاءأي عبادة التأمل والتفكر في مخلوقات الله، وقال صلى الله عليه وسلم: أعطوا أعينكم حظها من العبادة فقالوا: يا رسول الله وما حظها من العبادة . قال: النظر في المصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه .

مدح المتفكرين

ولايخفى على صاحب البصيرة أن التفكر مفتاح الأنوار، ومبدأ الاستبصار، وشبكة العلوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته، لكنهم جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره، ومورده، ومجراه ومسرحه، وطريقه وكيفيته، وربما لا يعلم أحدهم كيف، ولماذا، وفيم يتفكر؟

وقد مدح الله تعالى المتفكرين في كتابه بقوله إِنّ فِي خَلقِ السّمَاوَاتِ وَالأرضِ وَاختِلاَفِ اللّيلِ وَالنّهَارِ لآيات لأولي الألبَابِ ،الّذِينَ يَذكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِم وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلقِ السّمَاوَاتِ وَالأرضِ ربنا مَا خَلَقتَ هَذا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ آل عمران: (901 - 191) .

وختم الله تعالى ثلاث عشرة آية من كتابة بلفظ تتفكرون أو يتفكرون مما يصور أهمية هذه العبادة المهجورة، وقال سبحانه: أَوَلَم يَتَفَكّرُوا الأعراف 184 وقال عز وجل وَفِيَ أَنفُسِكُم أَفَلاَ تُبصِرُونَ، (الذاريات: 21) والبصر هنا بمعنى التفكر .

وقال سبحانه: قُل إنما أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلّهِ مَثنَىَ وَفُرَادَىَ ثُمّ تَتَفَكّرُوا، (سبأ: 46) فأمر عز وجل بالقيام من أجل التهيؤ للتفكر، فالتفكر هو الموعظة المقصودة هنا بالرغم من وجود مواعظ أخرى .

إن الله ذكر في أكثر من 250 آية من القرآن الكريم صوراً مختلفة للكون الذي يحيط بنا في سماواته وأرضه وفي جباله وبحاره وأنهاره، وفي مخلوقاته من الجن والإنس والطير والدواب وفي هوائه وسحابه وأمطاره وفي أحداثه وتغيراته وفي حاضره وماضيه وفي مشاعره وتسبيحاته . أترى هذا الكم الكبير من الآيات التي تفوق الآيات المتحدثة عن الأحكام الفقهية؟ هل ذكرت عرضا أو للقراءة المجردة فحسب؟

ذم التقليد الأعمى

لقد ذم الله تعالى معطلي العقول والأفكار، وشن عليهم حملة في آيات عدة من كتابه العزيز فقال سبحانه: وإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُوا بَل نَتّبِعُ مَا وَجَدنَا عَلَيهِ آباءنا، (لقمان:21)، وقال عز وجل: وَكَذَلِكَ مَآ أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ فِي قَريَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُترَفُوهَآ إِنّا وَجَدنَآ آباءنا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّقتَدُونَ، قُل أَوَلَو جِئتُكُم بِأَهدَىَ مِمّا وَجَدتّم عَلَيهِ آباءكم قَالُوَا إِنّا بِمَآ أُرسِلتُم بِهِ كَافِرُونَ ، فَانتَقَمنَا مِنهُم فَانظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذّبِينَ، (الزخرف 23 - 25) . فجعل تعطيل العقل و التقليد الأعمى سبباً للتكذيب والكفر ثم سوء العاقبة .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتفكر في آيات الله عز وجل، فيقلب وجهه في السماء، وقد قال مرة لأصحابه: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، (البخاري ومسلم) . وكان يأمر أصحابه بالتفكر فيقول: تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله (أخرجه الطبراني والبيهقي) كان أصحابه رضي الله عنهم كذلك، وقد قيل لأم الدرداء: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكر .

وينبغي ألا يصل التفكر إلى حد الخروج عما لم يحط به الإنسان بعلمه أو الخروج عما لاينبني تحته علم أو تصور، أو تصور أمور لايمكن تصورها لأنها لاتخضع لقياسنا . . فعلى الإنسان إذاً أن يقيس ما يعرفه من خلق الإنسان بما لا يعرفه . ثم يعالج شكه باليقين، فلا يسترسل مع وساوس الشيطان، بل يظل باحثاً عن الحقيقة حتى يكتشفها، ومن هنا جاء الخطاب الإلهي الكريم للنظر والتفكر في خلق الله، ودراسة الظواهر المختلفة، لأننا كلنا مسؤولون عن معرفة الحقيقة والوصول إلى درجة اليقين، فإلى جانب البصر ينبغي أن يعمل الإنسان بصيرته أيضاً، وإن علم الله لا يحيط به أحد من خلقه . وإن كل ما يتوصل إليه من العلم فهو لا يخرج عن خلق الله وقدرته العظيمة الشأن، وبذلك يزداد العاقل إيماناً بربه وأنه خلق ويخلق ما لا نعلم ويعلّم الإنسان ما لم يعلم .

الإشارات الكونية

يقول الدكتور زغلول النجار: (يشير القرآن الكريم في عدد من آياته إلى الكون وإلى العديد من مكوناته (السماوات والأرض، وما بكل منهما من صور الأحياء والجمادات والظواهر الكونية المختلفة)، وتأتى هذه الآيات في مقام الاستدلال علي طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعت هذا الكون بجميع ما فيه ومن فيه وفي مقام الاستدلال كذلك على أن الإله الخالق الذي أبدع هذا الكون قادر على إفنائه، وقادر على إعادة خلقه من جديد، وذلك في معرض محاججة الكافرين والمشركين والمتشككين، وفي إثبات الألوهية لرب العالمين بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ) انتهى .

وكان لنزول الآيتين الكريمتين (آل عمران 190-191) وما تلاهما من آيات في السورة نفسها وقع شديد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يروى عنه أنه قال عقب الوحي بها: ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها .

إن التفكر في خلق السماوات والأرض فريضة إسلامية لابد من قيام المسلمين بها، لأنها عبادة من أجل وأعظم العبادات لله الخالق، ووسيلة من أعظم الوسائل للتعرف إلى كل من حقيقة الخلق، وحتمية الإفناء وضرورة البعث، وللتأكيد على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وعلى تفرده بالألوهية، والربوبية، والوحدانية، فالكون الذي نحيا فيه شاسع الاتساع، دقيق البناء، محكم الحركة، منضبط في كل أمر من أموره، مبني على وتيرة واحدة من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته، وكون هذا شأنه لا يمكن لعاقل أن يتصور أنه قد وجد بمحض المصادفة أو أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه، بل لا بد له من موجد عظيم له من طلاقة القدرة، وكمال الحكمة، وشمول العلم ما أبدع به هذا الكون بكل ما فيه ومن فيه، وهذا الخالق العظيم لا ينازعه أحد في ملكه، ولا يشاركه أحد في سلطانه، لأنه رب هذا الكون ومليكه، ولا يشبهه أحد من خلقه، لأنه تعالى خالق كل شيء، وهو بالقطع فوق كل خلقه، لا يحده المكان، ولا الزمان لأنه سبحانه خالقهما، ولا يشكله أي من المادة أو الطاقة، لأنه تعالى مبدعهما، ولا نعرف عن ذاته العلية إلا ما عرف به نفسه بقوله عز من قائل: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (الشورى: 11) .

عبادة وعلاج

إن خلو الإنسان بنفسه كي يتأمل عالمه الداخلي ويتعبد ويحاسب نفسه على أخطائها يزيده صقلاً وصفاء، كما أكد العلماء أن في الخلوة فوائد كثيرة، منها تجنب آفات اللسان وعثراته، والبعد عن الرياء والمداهنة، والزهد في الدنيا، والتخلق بالأخلاق الحميدة، وحفظ البصر وتجنب النظر إلى ما حرم الله تعالى، كما أن التفرغ للذكر فيه تهذيب للأخلاق، وبعد عن قساوة القلب، وفي هذا إشارة إلى أهمية التمكن من عبادة التفكر والاعتبار ولذة المناجاة ومحاسبة النفس ومعاتبتها، وإن معرفتنا بعظمة الله تورث القلب الشعور الحي بمعيّته .

إن هذا الجيل الذي صده عن السبيل الاستكبار، وعلاه الغرور، وأسكره الترف، وجعل كتاب ربه عز وجل وراءه بحاجة ماسة إلى أن يعرف ربه حقاً، ويعظمه صدقاً، بتدبر أسمائه الحسنى، وبالتأمل في آياته الكبرى، والتفكر في عظمة الله من خلال الكون المحيط به، فمن استيقن بقلبه هذه المعاني لا يرهب غير الله عز وجل، ولا يخاف سواه، ولا يرجو غيره، ولا يتحاكم إلا له، ولا يذل نفسه إلا لعظمته، ولا يقدم أحداً عليه، وبعد هذا يستشعر هذا الجيل نعمة التفكر والعودة إلى الله عز وجل .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"