الحوار بين الأديان . . ضرورة يدعمها الإسلام

مفاهيم شرعية
02:05 صباحا
قراءة 8 دقائق
لم تشهد ساحة الفكر الإسلامي جدلاً وحواراً حول مصطلح من المصطلحات التي شاعت في حياتنا المعاصرة، كما حدث مع مصطلح "الحوار بين الأديان"، فقد رحب بعض علماء الأمة ومفكريها بالحوار والتفاهم والتعاون بين أتباع الأديان السماوية، بينما تحفظ البعض الآخر انطلاقاً من أن الأديان ليست محلاً للحوار ولا ينبغي طرح أسسها وثوابتها العقدية على طاولة الحوار .
فما المقصود ب"الحوار بين الأديان" وما موضوعات ومجالات الحوار الديني الذي يرحب به الإسلام ويدعمه لتحقيق التعاون والتعايش السلمي بين أتباع الأديان السماوية؟
في البداية يتحفظ شيخ الأزهر، د . أحمد الطيب، على تعبير "الحوار بين الأديان"، ويؤكد أن الأديان ليست محلاً للحوار وثوابتها وأسسها العقدية ولا ينبغي أن تكون أبداً محلاً للنقاش والجدال، فكل دين سماوي له ثوابته التي ينبغي أن يحترمها الجميع، ومن هنا يكون المقصود هو: "الحوار بين أتباع الأديان السماوية للبحث عن القواسم المشتركة والاتفاق على مجالات التعاون لمنع النزاع وتحقيق حالة من التعايش السلمي بين أهل الأديان جميعاً" .
وهنا يؤكد د . الطيب أن توضيح المقصود الحقيقي من الحوار بين أتباع الأديان السماوية يساعدنا عليه القرآن الكريم، ويقول: إن أية قراءة في القرآن الكريم تدلنا على الجواب الصحيح في هذه المسألة، لأن هذا الدين القيم هو في المقام الأول دين العقل، وترتيباً على ذلك منطقياً لا بد أن يكون دين حوار، إذ لا سبيل إلى مخاطبة العقل إلا بما هو قابل للحوار والنظر والدليل، وكون العقل أصلاً في الخطاب القرآني مما لا يقبل نزاعاً ولا خلافاً، لأن تلاوة القرآن تثبته ثبوت أرقام الحساب، وبصورة ينفرد بها القرآن عن سائر الكتب السماوية، وصحيح أننا نجد في كتب الأديان السابقة ما يشير إلى شأن العقل صراحة أو ضمناً، لكن صحيح أيضاً أن هذه الإشارات ما كانت ترد في سياقات مقصودة لبيان حجية العقل في البلاغ الإلهي، كما هو الشأن في القرآن الكريم، وإنما كانت ترد بصورة ضمنية أو عرضية، وحسبك أن تعلم أن مادة عقل وعلم وفكر ونظر وفقه بمشتقاتها وردت في القرآن الكريم أكثر من 120 مرة، وأن القرآن لفت الأنظار في تكرار عجيب بألفاظ شتى: مثل: يعقلون، يتدبرون، يفكرون، ينظرون، يتذكرون، يسمعون، يفقهون، يعلمون .

لغة العقل

ويضيف: إذا كان الإسلام قد عوّل في الخطاب الإلهي الذي يبلغه الأنبياء إلى الناس، على العقل، والعقل وحده، فإنه ألغى أية وسائط أخرى من كهنوت أو ممثل لحق إلهي يتوسط بين الله والناس، وجدير بالذكر أن اعتماد الإسلام على العقل أولاً وعلى الحوار تبعاً، لم يكن على المستوى النظري أو على مستوى النصوص القرآنية فقط، بل كان على مستوى التطبيق العملي الذي جسدته سيرة نبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، مع المسلمين وغير المسلمين على السواء حيث تتجسد صورة عملية لحوار الرسول مع أتباع الأديان السماوية والتي برزت في المعاهدات السياسية التي عقدها، صلى الله عليه وسلم، في المدينة المنورة بين المسلمين واليهود، وقد صيغت في شكل وثيقة سياسية، تعكس صورة فريدة من صور تسامح الإسلام واعترافه بالأديان الأخرى . هذه الوثيقة تنص على موادعة اليهود، لدرجة أنها اعتبرتهم أمة مع المسلمين جنباً إلى جنب، ففي البند الخامس والعشرين من هذه الوثيقة التاريخية يعلن النبي، صلى الله عليه وسلم: "إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، إلا من ظلم نفسه وأثم، فإنه لا يهلك إلا نفسه وأهل بيته" . وينص البند السابع والثلاثون على أن: "على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم" .

الإسلام وأهل الكتاب

ويضيف شيخ الأزهر: والشيء نفسه وأكثر منه بالنسبة إلى موقف الإسلام ونبي الإسلام من المسيحية، ففي القرآن الكريم كلام طيب عن النصارى، وأوصاف نبوية رائعة تليق بمكانة سيدنا عيسى عليه السلام، عبد الله ورسوله، وفيه سورة كاملة اسمها سورة الروم، والآيات الأولى منها تحمل بشارة لنصارى الروم، وتعدهم بالنصر على أعدائهم في بضع سنين، وكان المسلمون يحبون أن ينتصر الروم لأنهم نصارى، وكانت عاطفة المشركين مع الفرس والوثنيين في ذلك الوقت، وجاءت فرحة المسلمين غامرة وكبيرة بانتصار الروم، ولما اشتد أذى أهل مكة على المسلمين وفكروا في الهجرة خارج مكة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه" . . تقول السيدة أم سلمة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم: "فخرجنا إليه إلى النجاشي إرسالاً حتى اجتمعنا به فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمننا على ديننا ولم نخش منه ظلماً" . . هذا الملك الذي التجأ إليه المسلمون وأمنوا في جواره على دينهم وحياتهم هو ملك مسيحي يحكم شعباً مسيحياً ودولة مسيحية .
ملمح آخر يتضح فيه ترحيب الإسلام بالحوار والتعاون مع أهل الكتاب - اليهود والنصارى - يتمثل هذه المرة في اكتساب المسلم حقاً شرعياً في الاقتران بزوجة يهودية أو مسيحية، تبقى على دينها وتكون شريكة حياته وأم أولاده وربة بيته، وكلنا يعلم عاطفة المودة والحنان والإيثار التي تثمرها العلاقة الزوجية والخلطة بين الزوجين، وأنه بمقتضى هذا الحق الشرعي فلا حرج على المسلم أن يحتفظ بما شاء وما استطاع من هذه العواطف النبيلة ليبادل بها شريكة حياته المسيحية أو اليهودية .
إذاً، فالإسلام يعترف بأهل الكتاب ويقبلهم، ويقيم معهم علاقات ترقى إلى تكوين أسرة مسلمة تعتمد على زوجة يهودية أو مسيحية، ولا يجد الإسلام غضاضة في ذلك، وكنا نتوقع أن يتوجس الإسلام من اليهود أو من غيرهم، ويحذر المسلم من الاختلاط بهم والركون إليهم، خاصة بعد ما أظهروا عداءهم وبغضهم للإسلام والمسلمين . ولكن وجدنا القرآن الكريم الذي نبهنا إلى هذا العداء هو نفسه القرآن الذي لا يصادر على أتباعه قبول أهل الكتاب إلى درجة المصاهرة .
وهذا المستوى من العدل والإنصاف والاعتراف بالآخر - كما يقول د . الطيب - لا يُعرف إلا لهذا الدين القيم، ولن تتسع له شريعة أخرى كشريعة الإسلام، وعلينا أن نقارن بين هذه الصورة من الاعتراف بالآخر وبين شرائع الملل الأخرى، ومنها ما يصادر حق التزاوج بين اثنين إذا كان هذا من طائفة وهذه من طائفة أخرى . حتى لو كانا ينتميان إلى دين واحد . . والمقارنة الموضوعية تصب في مصلحة دين الإسلام الخاتم الذي أراده الله هداية للبشرية كلها .

نقاط الالتقاء

ومن هنا تأتي فرص التلاقي والتفاهم والتعاون بين أتباع الأديان السماوية السابقة، فالديانات السماوية الثلاثة خرجت من مشكاة واحدة، ولذلك فهي تتفق في الأصول والجوهر، وإن تباينت في التفصيلات والجزئيات، ويقول: الأديان السماوية كلها تقوم على التوحيد، وتحض على الأخلاق الفاضلة وتنهى عن ارتكاب الكبائر، وتتماثل الديانات الثلاث في أسس العبادة، فهي كلها تأمر بالصوم والصلاة والزكاة وإن اختلفت في مواعيد أدائها ومقدارها وكيفية هذا الأداء، كما أنها تقترب من بعضها بعضاً في شؤون العقيدة كالإيمان بالله الواحد وملائكته وكتبه ورسله ويوم البعث . . إلخ، ولكنها تختلف في أن الديانات اللاحقة تعترف بما سبقها من ديانات، ولكن الديانات السابقة لا تعترف بما جاء بعدها . فالإسلام خاتم الرسالات السماوية، يعترف بكل من المسيحية واليهودية، ولذلك، فإن فرص التلاقي فيه مع أتباع الأديان السماوية السابقة أكثر من غيره من الأديان .
والإسلام يتلاقى مع المسيحية من حيث كونه ديانة عالمية تخاطب البشر كافة دونما تمييز بسبب العرق أو الدين أو اللغة . . إلخ، ويتلاقى مع اليهودية في أنه تنظيم لشؤون الدين والدنيا معاً، ومن ثم أحاط بكل صور سلوك الناس في المجتمع فكان أثره عميقاً في النفوس، ونتيجة لاعتراف الإسلام بكل من اليهودية والمسيحية، فإنه أقر حرية العقيدة بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) .
كما قرر المساواة بين المسلمين وأهل الكتاب في الحقوق والواجبات، وهو ما يعبر عنه العلماء بقولهم "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" .

القيم المشتركة

ويهدف الحوار بين أتباع الأديان السماوية - كما قال العالم الراحل د . محمود عزب رئيس مركز الأزهر للحوار الديني والحضاري مستشار شيخ الأزهر - إلى التأكيد على القيم المشتركة بينها، وعلى رأسها الإيمان بالله، ودعم الأخلاق الفاضلة، وتكريم الإنسان والاعتراف بحقوقه . كما يهدف من ناحية أخرى إلى التخفيف من حدة الخلاف والصراع بين أتباعها، والغرض النهائي من كل ذلك هو نبذ ثقافة الكراهية بين أهل الأديان وتعصب أهل كل دين لدينهم، ذلك أن الكراهية والتعصب يؤديان إلى التطرف، وهو يؤدي بدوره إلى العنف والإرهاب . وبذلك تكون هناك فرص حقيقية لنشر الاحترام المتبادل بين أتباع الأديان، مما يحقق التعايش بينهم وحسن الجوار بين أبناء الديانات السماوية، فتحل ثقافة المحبة والتآخي والتسامح الديني محل الكراهية والتعصب الديني .
والموضوعات التي يتناولها الحوار الديني تتحدد - كما وضح د . عزب - في ضوء الهدف منه، وهو المعايشة السلمية بين أتباع الأديان في حدود المبادئ والقواعد المرعية في المجتمع الدولي، وعلى رأسها حرية العقيدة ومبدأ المساواة، وكل ذلك من دون المساس بالأصول الثابتة في كل ديانة من الديانات السماوية الثلاث إعمالاً لمبدأ الاحترام المتبادل بين الأديان ومن دون المساس بثوابت أو جوهر أي دين سماوي .

حالة إنكار

ويشير د . بكر زكي عوض عميد كلية أصول الدين بالأزهر إلى بعض العقبات التي تعترض الوصول إلى نتائج إيجابية من خلال الحوار بين علماء الإسلام ورجال الدين المسيحي، حيث لا تعترف الديانات السماوية السابقة بالديانات اللاحقة، ولذلك نواجه بحالة إنكار من بعض رجال الدين المسيحي، ويمكن التخفيف من آثار ذلك عن طريق التطبيق الصحيح لحرية العقيدة ومبدأ المساواة بين الناس من دون تمييز بسبب الدين، وإعمال هذين المبدأين يؤدي إلى حلول التسامح محل التعصب الديني، ويظهر أثر ذلك في عدم جواز إكراه الناس - بطرق صريحة أو ملتوية - على اعتناق دين معين وعدم انتقاص حقوق الأقليات الدينية داخل أية دولة، سواء كانوا مواطنين أو أجانب .
ويرى د . عوض أن الحوار الديني بين علماء الإسلام ورجال الدين المسيحي ينبغي أن ينتهي باعتراف واضح وصريح من رجال الكنيسة بالإسلام كدين سماوي، وما يترتب على ذلك من إقرار لمبدأ التسامح الديني .

الحوار المرفوض

وإذا كان الحوار الديني والفكري والحضاري ممكنا الآن بين علماء الإسلام ورجال الدين المسيحي، انطلاقاً من حالة التعايش السلمي بين الشعوب الإسلامية والشعوب المسيحية، فإن الحوار الديني مع "إسرائيل" وحاخاماتها ليس ممكناً في ظل عدوان الدولة الصهيونية على العرب والمسلمين واستمرار احتلال الأراضي العربية والعدوان المتواصل على المقدسات الإسلامية، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك .
إن الحوار الديني مع اليهود كأصحاب ديانة سابقة والذي يرحب به الإسلام قضت الدولة الصهيونية على مقدماته باحتلالها الأرض وتدنيس المقدسات، وهو ما دفع المؤسسات الإسلامية والثقافية العربية إلى رفض الحوار الديني مع اليهود في ظل هذه الأجواء .
وقال د . محمود عزب: لقد تحولت "إسرائيل" إلى دولة صهيونية متعصبة مارقة، تمارس العدوان والاضطهاد ضد العرب من مسلمين ومسيحيين، ولذلك رفض الأزهر الحوار مع حاخاماتها حتى تعود هذه الدولة المارقة إلى رشدها وتعترف بالحقوق العربية، وتتوقف عن انتهاك حرمة المسجد الأقصى المبارك .
وهنا يوضح مستشار شيخ الأزهر أن هذا الموقف الإسلامي العام من الحوار الديني مع اليهود ليس موجهاً ضد اليهودية كدين سماوي يعترف به الإسلام ويتعامل مع ثوابته بالاحترام الواجب، ولكنه موجه لرجال دين صهاينة يتبنون العدوان على المخالفين لهم في العقيدة وبخاصة المسلمين، وموجه أيضاً إلى دولة صهيونية تتحدى رغبة شعوب العالم في تعايش سلمي حقيقي، بعيداً عن الصراع الديني بين أتباع الأديان السماوية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"