السماء والسماوات (الكون) في القرآن الكريم (1-3)

سبحانك
04:53 صباحا
قراءة 5 دقائق
أ.د. حميد مجول النعيمي

«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً، وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ، النَّارِ» (آل عمران 190 و 191) .
إن القرآن الكريم غني بالإشارات والدلالات الدقيقة على الكون وما يحتويه من مختلف الأجرام السماوية من: سدم ومجرات ونجوم وكواكب وأقمار، وبخاصة الشمس والقمر، فلا يتقدم جرم على آخر ولا يتأخر عنه، وكل منها، صغيراً كان أم كبيراً، في حركة دائمة مستمرة، ولكلٍ مداره (فلكه) الخاص به والسرعة المناسبة له:
«لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (يس: 40).
وجميع الأجرام السماوية بمختلف أنواعها وأشكالها وكل ما خلقه الله سبحانه تعالى في حركة دائمة وفي مدار خاص بها:
«وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ..».
وهناك من الأجرام ما له ضياء (النجوم بما فيها الشمس) وأخرى لها نور (القمر والكواكب): «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ» (يونس: 5).
وقد أدركت الأمم منذ القدم الدقة المتناهية لمواقع النجوم وحركة الأجرام السماوية فاهتدت بها في ظلمات البر والبحر وبناء الصروح الكبيرة والضخمة مثل الأهرامات وحتى في صلواتهم لتحديد مواعيد العشاء والفجر: «وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» (النحل: 16).
«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (الأنعام: 97).

كما استرشدت الأمم بالنجوم في وضع تقاويمها، إذ اعتمد بعض هذه الأمم على حركة الأرض حول الشمس، والبعض الآخر على حركة القمر حول الأرض «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (البقرة 189 )، من هنا كانت عدة الشهور عند الله اثني عشر شهراً. وارتبط الحج بأشهر معلومات «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ..» (البقرة: 197)، ونظم أمر التربص والعدة بعدد من الأشهر «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» (البقرة 234 ). كما أقسم الله سبحانه بمواقع النجوم وليس بالنجوم نفسها: «فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» (الواقعة: 75 و76).
ومعروف لدينا فلكياً أن النجوم التي نراها اليوم ليست وليدة اليوم، وإنما نراها ونرصدها وندرسها وهي موجودة قبل مدة من الزمن، حسب بعدها عنا بعدد كبير من السنوات الضوئية، فمثلاً عندما نرصد اليوم نجماً على بعد 5000 سنة ضوئية (بمعنى أن الضوء المنبعث منه يصلنا بعد لحظة انبعاثه ب 5000 سنة في الأقل)، فإننا ندرس خواص هذا النجم وهو قبل 5000 سنة وليس الآن، بمعنى أن الذي نراه ونرصده وندرسه اليوم قد يكون غير موجود وقد تغيرت خواصه وقد لا يكون للنجم أثر.

وانطلاقاً من الحاجات التشريعية والتنظيمية والمعاشية، فقد عني المسلمون من الفقهاء وعلماء الرياضيات والفلك والفيزياء بحركة الأجرام السماوية وبخاصة الدورة الاقترانية للقمر التي يذكرها القرآن الكريم في آيات عديدة، ومنها قوله جلت قدرته:
«.. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى..» (لقمان: 29).
«وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» (يس: 39).
إن الله سبحانه وتعالى أمرنا من خلال الكثير من الآيات المباركة في القرآن الكريم، بالتفكر في خلق السماء والسماوات والأرض ومحتوى الكون بمختلف أجرامه السماوية ونظامها وحركاتها وخواصها ونظمها المعقدة والموزونة في الوقت نفسه، فضلاً عن التمعن بكوكبنا (الأرض، قارتنا السكنية) وغلافه الجوي وسطحه ومحيطه الحيوي و يابسته وبحاره وباطنه واختلافه عن الكواكب الأخرى وموقعه في المجموعة الشمسية وفي مجرة درب التبانة، وكيف جعله موطناً وفراشاً قائماً بحد ذاته «وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ» (الرحمن 55)، «ولَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ» (الأعراف: 24)، ليستدل الإنسان بهذه الظواهر السماوية على دقة صانعها وعظمة وإبداع الخالق جل جلاله. «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ» (آل عمران: 190).

الكون والانفجار الكبير

فالكون هو كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر» (القمر: 49)، وتشير الدراسات الحديثة إلى أن الكون المرئي الذي بدأ قبل 13.78 مليار(ألف مليون) سنة تقريباً منذ لحظة الانفجار الكبير (الفتق الكبير) يحتوي على ما يقارب مليار حشد مجري، وكل حشد مجري يتألف من 100 - 150 مجرة (والفضاء بين الحشود المجرية وبين المجرات وبين النجوم نفسها مملوء بالأنسجة الخيطية من الغازات والأتربة الكونية بمعنى لا وجود للفراغ في الكون فإنه محبوك ومملوء بالمادة والطاقة «والسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ».

إن هذه المجرات مختلفة في حجومها وعدد نجومها و كواكبها، فإنها تتراوح بين المجرات القزمة إلى المجرات العملاقة. تحوي المجرات القزمة ما يقارب 10 ملايين نجم بينما تحوي المجرات الضخمة ما يقارب 1000 مليار نجم (علماً أن مجرتنا درب التبانة تحوي 100 إلى 200 مليار نجم) وبذلك يقدر عدد نجوم الكون المرئي بحدود 30000 × مليون × مليون × مليون نجم تقريباً.

والمعروف فيزيائياً وفلكياً أَنَّ الكون في الوقت الحاضر في اتساع، وهذا الاتساع في تسارع (تتناسب سرعة ابتعاد المجرات بعضها عن بعض طردياً مع البعد بينها)، «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» (الذاريات: 47)، أما بالنسبة إلى مستقبل الكون فإن الدراسات والأرصاد الفلكية تشير إلى أن النجوم تولد من الغازات الخفيفة والتربة المنتشرة في فضاء ما بين النجوم، ثم تموت هذه النجوم بعناصر ثقيلة وتتحول إما إلى أقزام بيضاء أو نجوم نيوترونية أو ثقوب سوداء حسب كتلة النجم، فالصغيرة منها مثل الشمس تتحول وتموت كأقزام بيضاء أما الكبيرة فتتحول وتموت كنجوم نيوترونية أو ثقوب سوداء، وهذه الأجرام السماوية بسبب جاذبيتها الكبرى فإن القريب بعضه من بعض يتصادم ويتجاذب، وستأكل وتبتلع المواد التي حولها وتتحول إلى ثقوب سوداء كبيرة وذلك يزيد من كثافة الكون ( علماً أن كثافة الكون حالياً = 30% تقريباً من كثافة الكون الحرجة، والكثافة الحرجة هي الكثافة التي يتوقف عندها تمدد الكون)، فإذا كبرت كثافة الكون وزادت لتكون أكبر من الكثافة الحرجة فإن الكون قد يكون وصل إلى أقصى حجم له، ويتوقف عن التسارع والتمدد ثم يعود إلى الانكماش والتقلص شيئاً فشيئاً لغاية وصوله إلى الانسحاق والتكدس، ثمَّ يتكاثف ويسخن مرة أخرى ليعود إلى ما كان عليه سابقاً، و هذا ما يسمى بالتقلص والتكدس أو الانسحاق الكبير (Big Crunch) أو (الرتق الكبير)، أي عملية (رتق الفتق)، إعادة الكون إلى ما كان عليه سابقاً قبل الفتق أي ينطوي الكون على نفسه.

* مدير جامعة الشارقة - رئيس الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"