النهام في الثقافة الشعبية الإماراتية

حوارية الخوف والأمل في أغنيات ليالي الغوص
04:48 صباحا
قراءة 7 دقائق

لا تخفى أهمية التراث الشعبي بوصفه من المفردات المكونة للهوية عموما والهوية المحلية الإماراتية بشكل خاص. وتأتي أهمية هذا التراث من تجذره في المسلكية اليومية للإنسان الإماراتي خلال ما يعرف بمرحلة الغوص أو مرحلة ما قبل النفط، عندما كان البحث عن اللؤلؤ كنشاط اقتصادي ريعي وتجاري، يمثل الشغل الشاغل للإنسان في هذه المنطقة ذات السواحل الممتدة والتي طالما تصور سكانها أنها تختزن المصدر الأساسي لأرزاقهم.

في هذا السياق، ونظرا للصعوبة والمشقة والخطورة التي تكتسبها مهنة الغوص، يأتي دور حرفة النهم وشخصية النهام كعنصر أساسي لا يمكن الاستغناء عنه ضمن فريق السفينة المبحرة نحو المغاصات أو الهيرات كما تسمى باللهجة المحلية. في هذا الإطار نلاحظ أن النهام فنان أكثر منه محترف مواويل أو محترف ترويح يستمتع البحارة والغواصون بصوته الشجي وأدائه المتميز، للتزود بروح جديدة بعد كل غوصة أو بعد كل قفزة في المجهول بحثا عن لحظة الظفر بشيء ما قد يكون بمستوى المرجو منه وقد تخيب الآمال، تماما مثلما يفعل المثقف الذي يلقي بكلماته في عرض البحر بين قراء لا يعرفهم ولا يعرف كم سيكون حجمهم العددي أو كتلتهم النوعية، ولا كيف ستكون ردود أفعالهم حيال ما سيقرأونه. هنا تصبح الكتابة قفزة في الظلام، تماما كما هي لحظة الغوص. والنهام يحاول في كل مرة إعادة تشكيل تلك اللحظة بكل ما تختزنه من آلام ومخاوف تغلفها آمال عريضة، ولكن بطريقته الخاصة.

يبدأ موسم الغوص في فصل الصيف من الشهر الخامس ويستمر إلى الشهر التاسع. وعندما تصل السفينة إلى أماكن الغوص الهيرات تتحول السفينة إلى خلية نحل. وبالاستناد إلى الدراسة المهمة التي أعدها كل من عبد العزيز عبد الرحمن المسلم ومحمد عبد السميع يوسف تحت عنوان بوسماح آخر نهام في الإمارات ونشرتها دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، يتضح أن مهنة الغوص تكتنفها مخاطر جمة، حيث من الممكن أن يتوقف تنفس الغواص وهو تحت الماء بفعل عامل الضغط أو عوامل أخرى. لهذا يتعاقب البحارة على الغوص فريقا بعد آخر، وفي كل مرة يجلس العائدون على ظهر السفينة ليستريحوا ويستمعوا إلى مواويل وأغاني قصائد النهام التي تحث في مضامينها على العطاء والشجاعة وعدم التقاعس مهما كانت الظروف. ولأن رحلة الغوص تستمر شهورا طويلة، فإن مهمة النهام تأخذ دورا خطيرا في جانب التعبئة النفسية والمعنوية للبحارة. فبعد يوم طويل وشاق من العمل والغوص، يتجمعون على ظهر السفينة ليتجاذبوا أطراف الحديث ويستذكروا الحكايات والأساطير الشعبية القديمة، إضافة إلى ما دار بينهم من شد وجذب أثناء يوم شاق من العمل.

خلال هذه الجلسات يقوم النهام بأداء بعض ألوان الغناء وخاصة فن الفجري حيث يجلس البحارة في صفين متقابلين ويقوم بعضهم بتأدية بعض الحركات التعبيرية تسمى زفان. النهام إلى جانب حفظه للمواويل ومختلف الأغاني التي تتفق مع تحول البحارة من حال إلى حال ضمن عملهم اليومي، يحفظ أيضا الأغاني والقصائد ذات الطابع الغرامي العاطفي التي يقول في بعضها مخاطبا الحبيب:

مريت على الباب كأنك ما تعرف

والا النسب والحسب كانك ما تعرف

لن طبخن من عقب ما اعرف احد

قريت على الباب انت مقصودي

يا دار العود بالعودي

النار في مهجتي كما العودي.

تفريغ سيكولوجي

أشعار النهام التي يؤديها بألحانه الشجية، تؤدي وظيفة التفريغ السيكولوجي للمخاوف لدى البحارة وتزرع في أنفسهم روح الأمل كما تحرك فيهم حرية الاستمتاع الجماعي باللحظة من خلال طرد كل ما يمكن أن ينغصها.

الحالة نفسها نجدها في البوقالات الجزائرية ولكن ليس عند البحارة هذه المرة بل عند نسائهم اللائي يبقين وحدهن في البيوت محتفظات بالأمل من خلال زيارة مقام سيدي عبد الرحمن الثعالبي وحرق البخور عنده ومنهن من لا تنفك ترقب الميناء، لعل سفينة ترسو حاملة معها أحد الغائبين.

غير أن البحارة في الجزائر لم يكونوا يخرجون للغوص على اللؤلؤ، بل كانوا يخرجون في مهمات دفاعية لها علاقة بحراسة الحدود البحرية للبلد، ومع ذلك كان الغربيون في تلك المرحلة يطلقون عليهم تسمية القراصنة التي دخلت حتى على اللغة الشعبية في الجزائر، حيث يسمى البحار الجزائري ب القرصان. تنتظر النساء أزواجهن وعزاؤهن الوحيد في ذلك هو جلسات البوقالات التي تعني القلال، وهي عبارة عن جلسات ليلية تتكثف أكثر خلال شهر رمضان، تلقى فيها أشعار شعبية نسائية حرة، لها طقوس شعبية معينة وفيها نوع من السلوى عن الحزن الذي يداخل النساء المتزوجات من البحارة بسبب ذهابهم في مهمات عسكرية دفاعية. هذه الأشعار تنفرد بتأليفها وقولها العجائز من كبار السن وذوات التجربة الراسخة في الحياة، أشعار تشبه الموال الشرقي والخليجي، ذات وقع خفيف وجميل على النفس، لا تلتزم بوزن معين لكنها تلتزم بنوع من التقفية، كما أن تركيبها الجملي وطبيعة المفردات المستخدمة فيها، تتقاطع كثيرا مع الزجل الأندلسي وتتنوع مضامينها من منطقة إلى أخرى.

النهام مطرب بحري، والنهمة كما عرفها أهل اللغة هي الصرخة والصوت، والناهم هو الراهب والصارخ والمصوت. ومن هنا قولهم النهامي وهو الراهب لأنه ينهم أي يدعو. وحالة الدعاء في هذه الحال تنطبق أيضا على ما يدعو إليه النهام في البحر من إنجاز شتى مناحي العمل. النهمة لها إيقاع معين، وهي بهذا المعنى تختزن أيضا حالة تنظيمية تحافظ على إيقاع سير العمل على ظهر السفينة، حيث إن طبيعة العمل وإيقاعه يحددان ويفرضان إيقاع الأغنية وكلماتها. لهذا لا بد للنهام من أن يجمع بين النص المناسب وبين الأداء القوي الشجي، هذه المسألة جعلت النهامين يراكمون بمرور الزمن خبرة وتجربة وخيالا خصبا، تمكنهم من إبداع القصائد التي تتفق مع مختلف المواقف والأحداث التي تتخلل رحلة الغوص.

استبطان شعبي

يعبر النهام عن المكنونات النفسية لجمهوره من البحارة، فهو بالضرورة مدرك لآلامهم وأحزانهم ومعاناتهم اليومية وطبيعة ظروفهم الاجتماعية. وحتى ينجح النهام في تقمص هذه المفردات كلها والتوفيق بينها من خلال أدائه، لا بد أن تتوافر لديه مجموعة من العناصر لعل من أهمها طبيعة الحالة العامة التي تؤدى ضمنها الأغاني من حيث اتفاقها مع الشكل المؤدى من النصوص الشعبية. فالمطلوب من النهام هو تقديم أغان تهون على البحارة فراق أحبتهم والبعد عن أهلهم، بحيث يجعلهم فعلا يتفاعلون معه وينخرطون في بهجة اللحظة وسرورها متقبلين للواقع كما هو ومرددين كلماته وألحانه في ما يشبه الكورال.

ليس ثمة نهام من دون صوت قوي شجي، لأن النهام يشتغل من غير آلات إيقاعية أو موسيقية، ولا يرافقه سوى صوت البحارة الذين يقومون بدور الكورال من خلال مشاركته في ترديد بعض المقاطع، في نوع من الإحساس الجماعي الذي يدعم المعنى بشكل إيجابي. وعندما يؤدي النهام ما هو مطلوب منه من الغناء، فهو يقوم بعمل مثله في ذلك مثل أي عنصر آخر من عناصر السفينة، إلا أن ثمة من يرى أن دور النهام هو أهم بكثير من أدوار بقية العناصر باعتبار أن له تأثيرا كبيرا على البحارة في إقبالهم على عملهم وأدائهم له. من المهم جدا في هذا السياق، أن يكون ثمة نوع من الحميمية بين النهام وبين البحارة، والنواخذة جميعا وهم ربابنة السفن، يعلمون أنه بقدر ما يكون البحارة قريبين نفسيا من النهام بقدر ما يبذلون جهدا أكبر ويكون إنتاجهم أكثر وأوفر، فهو عامل جذب بالنسبة للبحارة، إضافة إلى دوره التنظيمي في ضبط إيقاع العمل وانتقاله من مرحلة إلى أخرى. لهذا يتبارى النواخذة في الظفر بأحسن النهامين وأقواهم وأشجاهم صوتا وأحبهم إلى نفوس البحارة، من خلال الحرص على إرضائهم ماديا ومعنويا.

مع مرور الزمن وتطور مهنة الغوص، تطورت أيضا مهنة النهم حيث أصبح النهام يعيش فعليا أجواء العمل على ظهر السفينة بعد أن كان مجرد متابع لها، أصبح يحس بما يحس به البحارة ويشاركهم انفعالاتهم المتنوعة تجاه مختلف المواقف التي تحدث في البحر. فالوصول إلى الهيرات أو مغاصات اللؤلؤ من خلال التجديف ليس مسألة سهلة وقد يستمر لفترات طويلة، خاصة إذا لم تكن الرياح مساعدة للسفينة. كما أن الغوص لاستخراج المحار ليس مسألة سهلة، من هنا جاءت النهمات محملة بالمعاناة النفسية والجسدية للبحارة.

تنويعات بحرية

الموال فن من الفنون الشعبية التي يؤديها النهام في أثناء رحلة الغوص، وهو أحد الفروع الأربعة من الشعر العامي القديم وهي: الكان كان والقوما والزجل ويظهر أن أصل الموال عراقي حيث يقول ابن خلدون في مقدمته لعامة بغداد فن من الشعر يسمى المواليا، وتحته فنون كثيرة منها القوما والكان كان. ومنه مفرد ويسمونه الدوبيت، على الاختلافات المعتبرة في كل منها. وتحدث ابن خلدون عن الفنون التي تندرج تحت فن الموال حسب ما تتطلبه الصياغة الشعرية وعدد الأبيات، وقال إن فن الموال انتقل إلى أهل مصر الذين ساعدتهم لغتهم على التبحر فيه بأساليب بلاغية متنوعة.

ويمتاز الموال بأنه من الفنون الأدبية التي تسمح باستخدام العامية والفصحى. وينقل عبد العزيز المسلم ومحمد عبد السميع يوسف في الكتاب المشار إليه سابقا، عن صفي الدين الحلي، تحديده لفنون الشعر في سبعة أنواع ثلاثة منها معربة أبدا لا يغتفر اللحن فيها وهي الشعر والقريض والموشح والدوبيت. وثلاثة ملحونة أبدا هي الزجل والكان كان والقوما. وفيها واحد بينهما يحتمل اللحن والإعراب هو المواليا.

منفذ تعبيري

يشير المرجع سالف الذكر إلى أن الأفراد الذين يعيشون في مثل ظروف البحارة خلال رحلات الغوص، في حاجة أكيدة إلى وسيلة للتفريغ السيكولوجي من خلال إخراج مختلف الأحاسيس والعواطف المكبوتة والتي يعتبر البوح بها أو إظهار التألم منها، نوعا من الضعف الذي يعيب الرجل في الذهنية الشعبية، وبالتالي يرفضه المجتمع. من هنا كانت آهات النهام هي الطريق أو المنفذ إلى التعبير عن مشاعر وأحاسيس وآلام الغواصين، التي أنتجت ثقافة فنية شعبية فيها الكثير من الوجع المنبعث من تاريخ المنطقة ومعاناتها والمتقاطع مع الكثير من الألوان الفنية الإفريقية من خلال التنوعات المتعددة التي ينفتح عليها الموال في أغاني الغوص.

فصوت النهام لا ينقطع عن الغناء على فترات متقطعة وفي تنويعات جميلة طيلة المدة التي تستغرقها رحلة الغوص، ممتدا من عرض البحر ليغمر السواحل وساكنيها، ولترجع السفن محملة بحصاد اللؤلؤ، وترجع ذاكرة البحارة وأرواحهم محملة بحصاد الألحان والإيقاعات والأهازيج التي انطلقت من ليالي البحر، لتستمر في محاورة يوميات الناس وامتصاص معاناتهم، خلال مرحلة انتهت مفرداتها الواقعية لتبقى مفرداتها الثقافية، تدفع روح الإبداع نحو التجدد وتحمي سياج الهوية من التبدد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"