د .محمد الجوهري: المشتغلون بعلم الاجتماع في بلادنا لا يملكون رؤية نقدية لواقعهم

03:19 صباحا
قراءة 7 دقائق

كان الدكتور محمد الجوهري، أول مصري يحصل على درجة الدكتوراه من أكبر معاهد الفلكلور في العالم (جامعة بون في ألمانيا)، في عام ،1966 ومنذ عودته من البعثة قاد حركة علمية قوية تهدف إلى تطوير البحث والدراسة في العلوم الإنسانية، خاصة علم الاجتماع وعلم الفلكلور . وآمن بأن هذه الحركة لن تؤتي ثمارها من دون ترجمة أهم الأعمال العلمية التي تساعد المحرومين من السفر للخارج في بعثات علمية وغير المتمكنين من اللغات الأجنبية على الرجوع إلى أمهات الكتب والمراجع العلمية، واجتهد لكي يطور مفهوم تعليم الخدمة الاجتماعية في مصر، ونظم لهذا الغرض عدداً من الندوات العلمية والمؤتمرات الدولية، وقد استطاع محمد الجوهري على مدى نحو أربعة عقود أن يكون مدرسة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ وقيم وسلوكيات وإنتاج فكري واضح في المجتمع العلمي، وهو حائز على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية في مصر عام ،1994 وحاصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى في عام،1982 إضافة إلى فوزه مؤخراً بجائزة النيل .

لماذا اعتذرت أكثر من مرة سابقاً عن عدم قبول ترشيح الجهات للحصول على جائزة النيل؟

- لكي ينالها أساتذتي الكبار، ونيل الجوائز لا يهمني كثيراً، فقد كنت أصغر من حصل على جائزة الدولة التقديرية، وأنا أهدي الجائزة لأسرتي ولزوجتي الذين أسهموا كثيراً في نجاحي .

تداخلت اهتماماتك، دراسة وبحثاً وتدريساً، بين الفلكلور وعلم الاجتماع، فما مدى هذا التداخل؟

- في البداية كان عشقي للجغرافيا، وشغفي الشديد بعلم دراسة الأرض والناس، فقد أسعدني حظي بمعلم جغرافيا محب لتخصصه غرس فيّ هذا الحب . ودخلت إلى كلية الآداب أفتش عن أهل الجغرافيا، وأتعرف إلى سائر أقسام الكلية . ومرة أخرى أقنعني صديق عزيز، كان قد سبقني إلى قسم الاجتماع عن طريق طرح سؤال بسيط: هل حبك للأرض أكثر أم للناس الذين يعيشون عليها؟ قلت أحب أرضي وأحب ناسي، لكن شغفي بمعرفة أحوال الناس أشد . وكانت نتيجة المناقشة قرار الالتحاق بقسم الاجتماع في شتاء العام ،1956 وحفزتني تلك القفزات الكبرى في علم الاجتماع إلى الالتفات إلى أهمية ترجمة الأعمال الأساسية في هذا التخصص إلى العربية .

وقد أكملت دراستي لعلم الاجتماع بالحصول على الليسانس بمرتبة الشرف، محرزاً الترتيب الثاني على الدفعة، التي كان أول خريجيها سعد الدين إبراهيم (الناشط السياسي المعروف) . كان انخراطي في الدراسات الشعبية قد بدأ قبل تخرجي، شجعني عليه صديقي حلمي شعراوي، الذي سبق أن زين لي الالتحاق بقسم الاجتماع، لكن فضله الأكبر كان تعريفي إلى كل من المرحومين أحمد رشدي صالح (الذي أصدرت عنه مجلداً في 800 صفحة) ومحمد أنيس (أستاذ التاريخ الحديث المعروف) . ومرة أخرى تجدد وعيي بتضافر العلوم الاجتماعية، مع توكيد الالتزام الاجتماعي (السياسي إن شئت) بمستقبل وطني وأحوال ناسي .

وفي تلك الأثناء دفعني هذا الاهتمام الفكري المزدوج إلى محاولة تأكيد نقاط الالتقاء بين تخصصي في الفلكلور وعلم الاجتماع . ووجدت ذلك في إسهام الدرس الفلكلوري في إلقاء الضوء على ما في صدور الناس من معتقدات، وما يدور في عقولهم من تصورات ورؤى للعالم والكون من حولنا، وكذلك في ما نمارسه من عادات اجتماعية . لكن ذلك ليس بوصفه جزءاً من دراسة التراث الشعبي، لكن بوصف هذا المأثور الشعبي في مجموعه يعين على فهم العقلية الشعبية وعلى الاقتراب من الخريطة الاجتماعية، والحقيقة أن الاشتغال بدراسة التراث الشعبي دعم انشغالي بهموم الفقراء . فالتراث الشعبي لأي مجتمع ملكية لكل الطبقات وكل الفئات .

لماذا تتردد مفاهيم الدين والتدين والمتدينين، والاعتقاد والمعتقدات ورؤى العالم كثيراً في أعمالك؟

- النشأة الأولى لي كانت في أسرة متدينة تديناً عميقاً فاهماً ودارساً بلا تزمت أو عصبية، وفرت اطلاعاً واسعاً على التراث الديني الرسمي كتاباً وسنة وأحكاماً وحفظاً لجزء كبير من القرآن والحديث، وانخراطاً في الممارسات والأنشطة الدينية عموماً، مع انفتاح اجتماعي إنساني واسع، ومخالطة لأنماط شتى من البشر من مختلف أقاليم مصر، ومن كثير من البلاد الإسلامية الهند، وباكستان، وبلاد المغرب العربي، وبلاد الشام وغيرها . لكنني اكتشفت منذ مرحلة مبكرة، ومن واقع الخبرات العريضة مع أنماط من التدين الإسلامي والمسيحي أن التجربة الدينية كما علمتني في ما بعد الدراسة العلمية المنظمة لمختلف أديان العالم هي أنقى ما تكون في صورتها الفردية، كصلة بين الإنسان والله . كما نما داخلي نوع من التباعد عن التجربة الصوفية، بصورتها التنظيمية المعروفة لنا في مصر، بسبب طابعها التنظيمي الهرمي المتدرج . فقد اتضحت في جوهرها كحركة جماهيرية (شعبية) ذات بنية تنظيمية مهيمنة على حياة الفرد، الذي تذوب شخصيته في شخصية رائده ومعلمه .

أعتقد أنه آن الأوان أن يلتفت دارسو المجتمع المصري، وبخاصة علماء الفلكلور المصريون، إلى تركيز الاهتمام على إلتماس ما تبقى من تراثهم الشعبي، يستلهمون منه قدراً من التسامح نحن أحوج ما نكون إليه الآن .

البعض يقول إن علم الاجتماع في مصر يعاني أزمة حقيقية في ممارسة دوره في ترشيد السياسة الاجتماعية فما رأيك؟

- شغلني هذا الموضوع طويلاً، فلازمني طوال مسيرتي العلمية، وتناولته بالعرض المفصل في أكثر من محفل علمي، وفي تصوري أن تأزم دور علم الاجتماع يمكن أن يعود إلى أكثر من سبب، ويرتبط بأكثر من عامل . فقد يكون تواضع هذا الدور أو جنوحه عن المسار الواجب راجعاً إلى تقصير من جانب المشتغلين بهذه العلوم في رؤية واقعهم الاجتماعي رؤية نقدية، ومن ثم في وضع أيديهم على المشكلات والموضوعات الحقيقية الأجدر بالدراسة، وقد سبق لي أن نشرت في العدد الأول من المجلة العلمية لجامعة القاهرة دراسة مطولة تحمل عنوان: رؤية نقدية لتاريخ علم الاجتماع في مصر، فعلم الاجتماع في كل الدنيا هو أكثر العلوم الإنسانية انتقاداً لنفسه، ووعياً بنواحي قصوره وسلبياته، ويكفي أن نقرأ فقط علماء الاجتماع الذين يتحدثون عن عدم انضباط القوانين أو التعميمات السوسيولوجية . فهذه المبالغة في النقد الذاتي المعروفة عند المشتغلين بعلم الاجتماع تمثل في رأينا مظهراً من مظاهر الصحة، وليست عرضاً من أعراض المرض، فوجود تلك العيوب ونواحي القصور في تجربة علم الاجتماع لا تعني أبداً أن تلك أمور غير قابلة للإصلاح، كما أنها لا تعني أبداً أن هذا العلم لم يسهم في تطور المجتمع . كما أنها لا تعني أيضاً وهذا مهم أن تلك السلبيات ليست موجودة، وربما بشكل أفدح، في علوم أخرى موجودة في بلادنا . لكنني كما قلت أذكّر بولع علم الاجتماع بنقد الذات .

لكن ألا ترى أن السلطة تلعب الدور الأكبر في خلق هذا الدور المأزوم؟

- في تقديري أننا كمشتغلين بهذا العلم يتعين علينا عندما نتناول تأزم دوره في خدمة المجتمع أن نبدأ بنقد أنفسنا أولاً، ثم نفتش عن الأسباب الخارجة عنا، وإن كنا واعين كل الوعي أن تلك الأسباب الخارجية قد تكون ذات أهمية حاسمة .

ولا يجادل أحد أن الاضطراب في أداء العلوم الاجتماعية دورها ربما يرجع في الأساس إلى تدخل مقيت أو فهم مغلوط من جانب السلطة لطبيعة الواقع الاجتماعي الذي تحكمه، أو لإمكانات البحث العلمي الاجتماعي وقدرة أصحابه على الإسهام في صياغة السياسات الاجتماعية وترشيدها .

رؤيتك للنهضة تقوم على تحقيق المجتمع لقدر من التفوق العلمي الذي يقود إلى صعود اقتصادي اجتماعي قادر على تحقيق الأهداف السياسية . . كيف انعكست تلك الرؤية في ما قمت به من بحوث؟

- قضية الفقر في مصر شغلت جانباً كبيراً من اهتمامي في ما كتبت، أو حاضرت، أو أشرفت عليه من رسائل، وقد تتبين جانباً من هذا الاهتمام في بحوثي مع زملائي عن سكان المقابر (حيث كان قسم الاجتماع بآداب القاهرة أول من تنبه إلى المشكلة، ونشر عنها عدة بحوث)، وجامعي القمامة، وصبيان الورش، والجوانب الاجتماعية للزحام . . . الخ . وأعتقد أن مثل هذه الدراسات تساعدنا على كشف مواقع الفقر على خريطة المجتمع المصري . فهذا القطاع من مجتمعنا الذي يبلغ حجمه نصف عدد سكان مصر اليوم هو الكشاف الذي يلقي الضوء على مشكلات المجتمع المصري الحقيقية والأكثر إلحاحاً، فهؤلاء الفقراء هم الأكثر معاناة، لأنهم الجزء الحساس من المجتمع الذي لا يملك أي احتياطات تكفل له مواجهة أي أزمة أو عبورها بسلام، أو حتى الصمود أمامها لفترة من الزمن، والقضية الثانية هي دراسة المجتمعات الهامشية . ففي بلادنا عدد كبير من المجتمعات المحلية البسيطة التي تضعف صلتنا بها، سواء كمواطنين ننتمي إلى المجتمع الكبير، أو كباحثين علميين، وضمها بشكل أكثر فعالية إلى حظيرة الوطن الأم، كما حرصت على دراسة ظاهرة التطرف الذي اجتاح حياتنا، بل اجتاح العالم، وأصبح يمثل تهديداً للجميع . فلا شك أن الإحساس بالقهر السياسي والضغط الاقتصادي لا بد أن يقود (مع العوامل الأخرى) إلى التأثير بشكل خطير ومؤسف على دور الدين في تنمية المجتمع وترقيته والنهوض به، فالدين هو مستودع القيم والمثل العليا، ورافد أساسي من روافدها، خاصة في المجتمعات التقليدية كمجتمعنا . لكننا نرى تياراته الأساسية الظاهرة تتراجع عن دورها الرائد الموجه لحياة جماهير الشعب . وتبنى أحد تلك التيارات موقف رفض النظام الاجتماعي القائم وتكفيره، ليس النظام الحاكم فقط، ولكن نظام حياة الناس وعيشهم . ويضع لنفسه هدفاً أوحد، ليس هو الإصلاح والتقويم لكن القضاء على هذا النظام وتدميره . هذا تيار لا يتحاور ولا يتشاور لكنه يضرب ويحرق ويقتل ويرجع بالمجتمع إلى الوراء .

لكن الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي الضاغط الذي وصفنا طرفاً منه يضغط مع ذلك على جماهير الناس، وهناك أغلبية من البشر لا تسمح لها طبيعتها المسالمة المتواضعة بمجاراة تيار العنف أو ممارسة سلوك العنف، وهي تشعر بعجز حقيقي عن تعديل الأوضاع الخاطئة المتردية التي تراها وتنكرها، فتهرب إلى عالم الخرافة، وربما عالم السحر، إنها ببساطة تقفز فوق الحياة المعاصرة، أو فوق الحياة الواقعية، لتحلق في كل ما يعيق التقدم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"