رؤية نقدية في بعض الشعر الفلسطيني الجديد

نصوص تفيض بالحياة رغم الاحتلال (2 - 2)
05:20 صباحا
قراءة 8 دقائق

بقدر ما يتسارع النثر في قصائد الشاعر وليد الشيخ، تتسارع الصور الشعرية الجديدة التي تشقى في سبيل تحويل هذا النثر إلى قوة تجريبية فاعلة ومؤثرة في بناء القصائد كلها، ثم تفكيكها دفعة واحدة بما يشبه السخرية من كل شيء. نقرأ في مقطع مرور من قصيدته عطرك الذي سال:

كلما مرّت

يحترق الفلافل في الزيت

وينسى الحلاقون مقصاتهم على الرؤوس

وتطير مخيلات فاسقة في شارع رُكب

وحين نقرأ المقاطع الثلاثة لقصيدته ممنوعات، نعبر بالنثر وبالصور، إلى لهب المفارقة في هذه السخرية التي تتجاوز الشبه إلى العري القاسي في ممنوعات تتدرج من العادي إلى إطباق الشلل على الحياة كلها:

الباص:

ممنوع البصق أو التدخين

أو إخراج اليد أو الرأس

أو رمي النفايات من الشبابيك

أو التكلم مع السائق

البيت:

ممنوع لبس الشورت على البلكون

أو النظر في عيني الأب مباشرة

أو النوم حتى الظهيرة

أو أن تلعب الأخت على الباسكلايت

الاحتلال

ممنوع التجول

وينفرد الشاعر طارق الكرمي بتجلياته التركيبية في إعادة توليد اللغة وفق رؤيته التجديدية لها، ولما تمنحه في السياق المتنامي من قدرة شعرية على توليد الصور والإيحاءات والرموز المكثفة. ويمكن أن نتابع هذه التجليات على وجه الخصوص، في شغفه باللعب على أحرف الجر، مثل على، من، في.. لتتحول في كل قصائده، إلى عَ، م ، فِ.. . نقرأ في قصيدته تشكيل أول:

امرأة تخرج م المرآة كماء أشهب

تلبس شكل الماء

تجاعيد الماء

تذوب كذرة عرق الطفل النائم

وكجلد الرعدة تنسلخ عن المرأة

أكانت يدها عَ كل القمح قطاة؟

أكانت زر بتولا يتنفس

مطرا فِ الجيب الأيسر..

ويمتد اللعب إلى الأعداد أيضا. وهي بقدر ما تكثر في قصائده، فإنه لا يوردها إلا بشكلها العربي القديم الذي تحول لاحقا إلى الشكل الأوروبي، من دون أن يكتبها بالأحرف. وعلى سبيل المثل، نقرأ في قصيدته حركات: لي بيت أخير آخر، سيجته 30 ضلعا. وفي قصيدته بدايات فائتة: كيف إذاً هذي الريح الخشب أتتك ل 60 من السنوات.

الصوفية

في الرحيل المكثف إلى الذات، تأخذ الصوفية معناها الأشد كثافة عبر بناء القصيدة. ولن نفهم هذا البناء إلا في فضاء ثقافة عالية تمتد من جذور الإنشاد الصوفي وحلقاته ومريديه، إلى حركات التطوير الإيقاعية التي استلهمت الأساطير والملاحم القديمة في المغامرة الشعرية المتواصلة والمتوارثة من جيل إلى جيل.

على صعيد قصيدتنا الفلسطينية في سياق هذه الدراسة، تمتلك الشاعرة ريم حرب على وجه الخصوص، ذاكرة صوفية متأججة تندفع من خلالها إلى استنهاض أعلى درجات الانبعاث الروحي، في مجموعتها صلوات للعشق. ولكن الروح المعنية لدى هذه الشاعرة، لا تسبح أو تنبعث وحدها في أفق أثيري منفصل. وإنما هي الشعلة التي تلهب الجسد الفائر، المادي والملموس، في الأفق الموحد الذي هو الإنسان. وفي هذا الموحَد والمتوتر في آن، تتداخل الآيات القرآنية بالقصص التاريخي والحكايات الشعبية.

غير أن هذا القاموس المضمخ بتراث محيي الدين بن العربي والحلاج وابن الفارض، لا يبتعد عن الواقع اليومي، إلا ليزداد توافرا عليه، بمسمياته ومعانيه.

أما حين نعبر إلى صوفية بيت في وشم الخريف للشاعر فيصل قرقطي، فإننا نعبر إلى بيت الأحزان المتدفقة من شرايين هذا الشاعر، تماما كما هي متدفقة من شراييننا، نحن العابرين إليه من بيوت شتى.

نقرأ في قصيدته المسافات:

مواله هباء

يترجل عن الصوت

ليفرش عتبات الروح

بالتراتيل الفضية

ونقرأ في قصيدة لا أعيد الكلام..ولكنني:

يا نجي الآس/ شردني الصدى/ وبكى

.. يا مذيب الليل / يطلع من دمي ليل بلا فجر / وينساني

.. النواح دم من غبار..

ولكن هذه القراءة غير كافية إلا إذا ارتبطت بتداعيات الأرض المبثوثة اسما وفكرة ومعنى وتجريدا وممارسة بالملموس المادي، في كل قصائد هذه المجموعة. هي الأرض بالتالي، سر الأسرار لصوفية هذا الشاعر،لا بالوجدان الوطني الفلسطيني الدارج والمعروف وحده، طالما أن أرض فلسطين مغتصبة ومذبوحة، وإنما أيضا على سعة من الامتلاء والشغف، بالوجدان الإنساني الشامل للأرض في كل مكان، وكل لغة، وكل هوية.

نقرأ في قصيدة ثلاثية الماء والنار والصحراء:

يتنفسني الوقت / يدوم لهاث الصلصال، على وجع الأرض/

تدوم الأرض بكل محاريث الفلاحين، بكل ثغاء الماعز..

ينطبع تراب الأرض على كفيّ خرائط/ ودمي يغلي تحت خطوط

الطول، وفوق خطوط العرض..

وفي قصيدة شجر الخرائط:

مطر على رمل بكى/فأضاء قلب الأرض/ والأرض الفراشة

بين ريح الهجر والجند المدجج بالردى..

وفي قصيدة اشتعال الأضرحة:

وجل يخض الأرض بالحمى/ ويستسقي شعاب الحلم/

يبرع في ارتجاف اللغو/ ينكسر المدى /

وتشط أرض من مدارات الفصول /

لتبتني بيتا فقيرا في اللغة..

هل الأرض في ذروة هذا الاشتعال الصوفي، هي اللغة أساسا قبل أي مضمون، وبعد كل شكل؟ لعل الأصح، أن هذه اللغة المعتقة بالروحي، هي بالذات نسغ الصوفية لهذا الشاعر، في شغله الشاغل بها، وانكبابه عليها، حتى كأن ما سواها غير موجود في جعبته أو تحت جُبته.

وحين نصل إلى الشاعر منذر عامر في مجموعته مديح للمرأة الرمادية، تتماهى الصوفية بالمرأة عبر قصيدة مطولة واحدة لا تتجاوز هذا التماهي إلا لتزداد غوصا فيه، عبر أربعمائة وعشرة مقاطع لا عنوان لأي مقطع منها، حيث اكتفى الشاعر بعنوان المجموعة التي هي القصيدة الواحدة والوحيدة في آن.

من تكون هذه المرأة؟ هل هي الحبيبة العشيقة التي يتدفق الغزل بها ومن خلالها؟ أم أنها التكوين الإشراقي الذي شاءه هذا الشاعر لنفسه سويا وعلى أحسن صورة، في مديح لا حدود له ولا ضفاف.

ثمة امرأة لا نعرفها يرسمها منذر عامر في مقاطعه. فإذا اقتربنا من المعرفة في مقطع، ابتعدنا في التيه والحيرة، في مقطع آخر.

نقرأ في المقطع 12:

قوسي فضاء مبهم

وذاك انكسار الأجنحة

والرؤى مذ راودتني الأغاني

ترثي بياض الأضرحة

يا امرأة العزف في الجنازة المفرحة.

المفردات هنا تجبرنا على تفاسير مغايرة لها. وإلا، كيف تبين لنا هذه المرأة العازفة أو المعزوفة في موت مفرح؟

في المقطع ،62 نكاد نفكك هذه الكيفية في تفسير قريب. نقرأ:

ليس الحقيقة ما ترين

ولا ما تخبئه النهايات المعلنة

لكنها الغموض المعرّى

في ليلك العينين.

الامتداد الكلاسيكي

يوفر لنا الشاعر عبد الحكيم أبو جاموس مساحة واسعة من هذا الامتداد في مجموعته فراشة في سماء راعفة، والذي نقصد به التوافق التلقائي مع القصيدة العمودية بشكلها الكلاسيكي، وبمضامينها الكلاسيكية أيضا. نقرأ في معظم هذه المجموعة شعرا مدرسيا في الفخر والمدح والرثاء والغزل، وكل ما تشتمل عليه أبواب النظم والقريض في ذاكرتنا التراثية. ومنها قصيدته عجزت عن الأداء التي يهديها إلى روح الشاعر الراحل محمد أحمد جاموس:

يا شاعر الوطن السليب

أذاب مقلتك الرحيل

أضحت همومك في بنيك

هموم موطنك الجميل

قد ذدت عنه مكافحا

فوقفت بالباع الطويل

وقصيدته ملحمة الصبر والنضال:

يا أمة العرب الكرام، هل انقضى عهد الفدا؟

إن قيل حي على الجهاد، فهل تلبون الندا

جاس العدا أرض البلاد، فهل تردون العدا

ورغم أن مجموعة ديوان العسل البري للشاعر نمر سرحان، لا تشتمل على تلك الأبواب التقليدية، إلا أنها في بوحها الغزلي المباشر، تدخل في دائرة الامتداد الكلاسيكي لهذا النمط من البوح الوصف. ومع تفرد بعض قصائد أو مقاطع هذه المجموعة بلمحات وجدانية من التجديد الوصفي، إلا أنها جميعها لا تخلو من تأثير التركيبة الغزلية التقليدية والشهيرة للشاعر السوري الراحل نزار قباني.

وفي قصيدة أحبك يقول:

أحبك

وأعرف أن اللؤلؤ تحت الأصداف

وخيوط حرير ناعمة تغفو

تحت شرانق متخمة من ورق التوت

أحبك وأعرف أن قشور الرمان المرة

أبهى من جوهرة الياقوت.

ونجد ملامح شفافة من هذه الكلاسيكية، ولو بأشكال أكثر نزوعا إلى المعاصرة، في بعض قصائد الشاعر سميح محسن في مجموعته صورة في الماء لي، ولك الجسد. ففي قصيدته ليالي المدينة نقرأ:

أبسط كفي يديّ على الأرض أمام العرافة

والعرافة

تلك القادمة حديثا من قلب الصحراء

تفرش منديلا أبيض كالثلج على الرمل

تنثر فوق المنديل الأبيض الخرز الأزرق والأحمر

القرمزي واللازوردي

تتمتم كلمات لا يعرفها أحد..

وفي قصيدته زوجان، نلمس أطراف كثير من مفردات وأخيلة الشاعر نزار قباني تارة، والشاعر بدر شاكر السياب تارة أخرى. وهو ما يتجاوز التأثر بالذاكرة الشعرية إلى النسج على منوالها الكلاسيكي الجاهز. نقرأ:

على مقهى رصيفي

تناول من حقيبته الجريدة

علبة التبغ الفرنسي

الملوّن جلدها بالموج والماء المعبأ بالزجاجات الصغيرة

أشعل الأولى

وغاب يراقب الفتيات من عينين غائرتين.

أما في مجموعة وردة الروح للشاعرة فيحاء عبد الهادي، فإن هذا المنوال يكاد لا يبين، لعدم حضور القصائد العمودية التقليدية واللازمة له من جانب، ولانفتاح الفضاء أمام ذاكرة المكان المحدد، وعلى وجه الخصوص، المكان النابلسي (مدينة نابلس)، بتجليات حديثة، من جانب آخر. غير أنه موجود في ثنايا النصوص. ونعيش مع هذا الوجود الكلاسيكي في أكثر من قصيدة. نقرأ في قصيدة شادية، وهي الشهيدة شادية أبو غزالة، في الذكرى الثلاثين لاستشهادها:

تشير إلينا

يتحرك التاريخ

تهتز ثلاثون عاما

تمشي الأشجار

تحكي

تنفتح نوافذ

تنشق طرق

وتجري الأنهار...

السردية الغنائية

اختار الشاعر مازن دويكات في مجموعته وسائد حجرية أن يسرد بالشعر، تداعيات قراءته المكثفة لأربع وأربعين شخصية أدبية، محلية وعربية وعالمية، مخصصا لكل شخصية منها قصيدة تحمل اسمها، باستثناء الشاعرة فدوى طوقان، وهي واحدة من هذه الشخصيات، حيث جعل من قصيدته عنها، والتي أهداها لها، مدخلا للمجموعة كلها، تحت عنوان الفراشة.

تمتد هذه الشخصيات عبر عدة قرون، وبعضها عبر عشرات القرون، وتدخل في أنسجة ثقافات وحضارات متنوعة. غير أنها جميعها تتحول في هذه السردية الغنائية إلى خلق جديد خاص بهذا الشاعر، وبرؤيته لمعاني الخلق والإبداع.

ومن هذه الشخصيات على سبيل المثال: معين بسيسو، وأميل حبيبي، وغسان كنفاني، وأمل دنقل، وبدر شاكر السياب، والمتنبي، وأبو تمام، ولويس أراغون، وشكسبير. وكان من الملفت أن نجد بينها أيضا، شخصيات أسطورية أو تقترب من الأسطورة الموغلة في القدم، أو تتماهى معها تماما، مثل زرقاء اليمامة، وأوديب، ما يؤكد أن القصد الأول للشاعر في مجموعته هو الانفتاح على ثقافته العالية أمامنا، بمهارة لغوية متمكنة من مخزونها التراثي ومن قدرتها على الغناء، من دون أن نغفل عن قصد ثان له لا يقل أهمية، في ربط إيحاءات هذا المخزون بما هو جار في الراهن، على الأرض وبين الناس.

ورغم أن كثيرا من الشعراء كتبوا على مر الأزمنة،(ويكتبون إلى حينه، وسوف يكتبون) عن غيرهم من الشعراء والأدباء والفلاسفة الذين أحسوا بالقرب الشديد إليهم، وإلى تجاربهم ورؤاهم، فألفوا القصائد عنهم، أو أهدوا إليهم بعض القصائد، أحياء كانوا أو أمواتا، فإن ما اجتهد فيه مازن دويكات مغاير في عشقه المتمايز لهذه الكتابة، حين خصص مجموعة كاملة من شعره لكل هذا الحشد من الشخصيات.

وإذا كان ثمة من يرى في هذه الكتابة التي سميتها السردية الغنائية، شكلا من أشكال الرثاء التقليدي لمن هم من الأموات، وشكلا من أشكال المديح التقليدي أيضا، لمن هم من الأحياء، ما يعني وفق هذه الرؤية الشكلية أنها كتابة كلاسيكية بحتة، كان الأولى بي على ذلك، أن أضعها ضمن مفصل الامتداد الكلاسيكي، في هذا البحث، فإن التمعن في قصائد وسائد حجرية يرتفع بهذا الإبداع المتفوق فيها إلى مستوى التجديد الذي لا يكسر ذلك الامتداد أو يشتط بالغربة عنه، والتمرد عليه، بل يتناغم معه بتداعيات معاصرة وذات وعي عميق لمهمتها في الشعر الحديث.

نقرأ في قصيدة الفراشة:

زهرة النار قالت لنا

عودتني الفراشة أن لا تنام بعيدا

عن سرير الورود

الملاءات ليست لها، والوسائد ليست لها

وليس لها أن تمارس طيش القعود

لها أن تعلق بين الجناحين

تعويذة من لهب

وقصائد زرقاء...

مع أن الشاعر يغمرنا بالفيض الخفي لعاطفة الرثاء الصادق في هذه القصيدة، إلا أن ما يشدنا إليه في هذا الفيض كله، هو ما يرغب الشاعر أن يصل إلينا به، عن قراءته للشاعرة الراحلة، وعن مفهومه الوجداني لشعرها، ولرحيلها في آن. أي أن الأهم في المشهد المعني هو الشعر في تلك المهارة اللغوية بالذات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"