د. محمد فراج أبو النور*
يوماً بعد يوم يزداد الموقف تعقيداً، وتزداد الأوراق اختلاطاً، في منطقة الشمال السوري، بسبب تخبط وعشوائية سياسة ترامب، بإعلان انسحاب القوات الأمريكية بصورة عاجلة من المنطقة «خلال شهر إلى ثلاثة أشهر»، القرار الذي تم اتخاذه دون تشاور مع الكونجرس أو وزير الدفاع وكبار الجنرالات، سرعان ما تبينت صعوبة تنفيذه في الموعد المحدد، فبدأت سلسلة من التراجعات، انتهت إلى إعلان مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون، أنه «لا يوجد جدول زمني محدد للانسحاب».
الواقع أن عاصفة الانتقادات، التي أثارها قرار ترامب داخل الولايات المتحدة، وصولاً إلى استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس، وخارجها، تعود إلى أن القرار لم يضع في اعتباره، خاصة من حيث التوقيت، سلسلة من التعقيدات والاعتبارات المهمة.
وعلى سبيل المثال فإن ترامب أعلن أنه قد تم «سحق داعش»، وبالتالي فلم يعد هناك مبرر لوجود القوات الأمريكية في سوريا، وأن دول المنطقة، خاصة تركيا، تستطيع القضاء على فلول التنظيم. بينما يعرف المتخصصون أن هناك ما يتراوح بين (20-30) ألف إرهابي «داعشي» في منطقة الحدود السورية- العراقية، وتصل بعض التقديرات بعددهم إلى (40) ألفاً.
كما أعلن ترامب ما يفيد بأنه يطلق يد تركيا في شمالي سوريا، لتضرب الإرهاب «الداعشي»، والحقيقة أن «الإرهاب»، الذي يهم تركيا القضاء عليه هو «الإرهاب الكردي»، متمثلاً في الحزب الديمقراطي الكردستاني، «فرع حزب العمال الكردستاني - التركي في سوريا»، ووحدات الحماية الكردية التابعة له، والتي تمثل عماد (قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، والمجالس الإدارية الخاضعة لهما.. وليس «داعش».
وهكذا بدأت حشود ضخمة من القوات التركية، تتدفق نحو مناطق الحدود الشمالية السورية «مناطق تمركز الأكراد»، بينما تنطلق من أنقرة التهديدات والتعهدات بالقضاء على «الإرهاب الكردي» وليس «الداعشي».
وإزاء هذه التهديدات الجدية كان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، مضطراً للإعلان عن أن الولايات المتحدة تسعى لضمان «ألا يقوم الأتراك بذبح الأكراد بعد الانسحاب الأمريكي»، وأن مستشار الأمن القومي بولتون سيزور أنقرة للحصول على هذا الضمان، ومعروف طبعاً إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى تعهدات أردوغان. ومعروف كذلك أنه في حالة هجوم تركيا على مناطق الأكراد، فلن يكون أمام هؤلاء إلا خياران أحلاهما مر: إما الانسحاب من قتال «داعش» في منطقة شرق الفرات، للاشتباك مع القوات التركية المهاجمة، ومعها قوات الجيش السوري الحر التابع لأنقرة، والذي يعمل كغطاء للقوات «التركية»، وإما الهرب إلى كردستان العراق أو إلى الداخل السوري، وفي الحالتين تتحقق ل«داعش» مصلحة كبرى.
والواقع أن اهتمام تركيا بمحاربة الإرهاب يمكن قياسه بالنظر إلى ما يحدث في منطقة خفض التوتر في إدلب وما حولها «ريف حلب الغربي، وريف حماة الشمالي، وريف اللاذقية الشمالي الشرقي»، حيث ترتع قوات النصرة «هيئة تحرير الشام»، والجيش الإسلامي التركستاني وحراس الدين، وغيرها من المنظمات الإرهابية «المصنفة دولياً إرهابية»، وتشن الهجمات على المدن والقرى السورية، ومواقع الجيش السوري كل يوم دون أن تحرك تركيا ساكناً ضدها، كما كان يفترض بمقتضى اتفاق سوتشي بشأن إدلب (17 سبتمبر/أيلول 2018).
والأسوأ من ذلك أن تركيا سحبت الآلاف من المجموعات السورية الخاضعة لها، وأرسلتها إلى المناطق الشرقية من الحدود السورية- التركية لتكون بمثابة «غطاء سوري» للحشود التركية، التي تتأهب لمهاجمة منطقة شرق الفرات، وشجع هذا قوات النصرة «جبهة تحرير الشام» على مهاجمة الفصائل المسلحة الأخرى، الخاضعة لتركيا ك«أحرار الشام»، و«نور الدين زنكي» وغيرهما، وضم أكثر من ثلاثين قرية وبلدة إلى مناطق نفوذها بحيث أصبحت «النصرة»، تسيطر على الجزء الأكبر من منطقة إدلب، ودون أن تحرك القوات التركية ساكنا. ويتيح لنا ذلك كله تكوين تصور عن الطريقة التي تنوي بها تركيا محاربة إرهاب «داعش» في منطقة شرق الفرات والحدود السورية- العراقية.
الواقع أن ما يهم تركيا في الشمال السوري أمران اثنان، الأمر الأول: تدمير الوجود الكردي شمالي سوريا، تحت ذريعة «مكافحة الإرهاب»، وإحكام الحصار على الأكراد الموجودين جنوبي، وجنوب شرقي تركيا، وبصورة أخص على حركة عناصر حزب العمال الكردستاني، من ناحية الجنوب.
الأمر الثاني: استغلال فرصة حالة الحرب والوجود الأمريكي، والضعف المؤقت الذي تعانيه الدولة السورية في منطقة الشمال السوري، للتوسع في هذه المنطقة، تحت غطاء من قوات «سوريا» عميلة «الجيش الحر وخلافه»، وتقدم ستاراً للاحتلال التركي، تحقيقاً لأحلام وطموحات إمبراطورية «عثمانية» قديمة، في هذه المناطق ذات الأرض الخصبة، والمياه الوفيرة، وثروات النفط والغاز، وأيضا ذات البنية السكانية والاجتماعية الأقل تماسكاً من بقية أراضي سوريا المركزية، بما فيها غرب الفرات وحلب «أقليات قومية، وعرقية صغيرة، وعشائر عربية ضعيفة.. إلخ».
تاريخ تركيا مع سوريا يشهد بذلك، بدءاً من اغتصاب وضم لواء الإسكندرونة (1939)، كما يشهد به الحاضر، حيث تشق تركيا الطرق بين مقاطعتها الجنوبية وشمال غربي سوريا «إدلب/ عفرين / الباب/ أعزاز.. إلخ» حيث طردت نحو (350) ألف سوري من منطقة عفرين وما حولها، وحيث توزع بطاقات الهوية التركية على المواطنين السوريين «عملية تتريك واسعة».. إلخ.. إلخ.
لهذا يلفت النظر بشدة أن جون بولتون يشترط على الأكراد مقابل ضمان سلامتهم ألا يسلموا مناطقهم إلى الجيش السوري، ولا القوات الروسية الحليفة.. وإنما إلى القوات التركية، ولهذا تحدثنا في مقال سابق لنا (الخليج 27 ديسمبر/كانون الأول 2018) عن «الصفقة الكبرى» بين ترامب وأردوغان، ولهذا تضغط أمريكا على الأكراد لكيلا يسلموا «منبج» إلى القوات السورية أو الروسية، وتتلكأ في الخروج من المدينة.
إذن، فإن ترامب يريد أن يبيع الأكراد بضمانات لفظية واهية، ومعهم شمالي سوريا إلى أردوغان مقابل استعادته إلى حظيرة «الناتو»، والتحالف الوثيق مع أمريكا، وضرب تعاونه المتشابك مع روسيا وإضعاف نفوذ موسكو.
ويستطيع الأكراد إفشال هذه الصفقة كلياً أو جزئياً، وإنقاذ رؤوسهم إذا كفوا عن إهدار الوقت وسلموا مناطق الحدود بسرعة إلى الجيش السوري، والتحالف مع القوات الروسية.. كما يستطيع العرب إنقاذ الموقف إذا سارعوا إلى إعادة العلاقات مع دمشق، كما فعلتها الإمارات العربية المتحدة، وتعزيز شرعيتها الدولية، وبذلك يوفرون دماء عربية غالية ستسيل لتحرير المناطق التي تريد تركيا احتلالها، لأن سوريا لن تسكت على احتلال أراضيها الشمالية، مهما تنوعت سبل المقاومة.
سرعة التحرك مطلوبة.. لأن الوقت الآن كالسيف.. فعلاً.
يوماً بعد يوم يزداد الموقف تعقيداً، وتزداد الأوراق اختلاطاً، في منطقة الشمال السوري، بسبب تخبط وعشوائية سياسة ترامب، بإعلان انسحاب القوات الأمريكية بصورة عاجلة من المنطقة «خلال شهر إلى ثلاثة أشهر»، القرار الذي تم اتخاذه دون تشاور مع الكونجرس أو وزير الدفاع وكبار الجنرالات، سرعان ما تبينت صعوبة تنفيذه في الموعد المحدد، فبدأت سلسلة من التراجعات، انتهت إلى إعلان مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون، أنه «لا يوجد جدول زمني محدد للانسحاب».
الواقع أن عاصفة الانتقادات، التي أثارها قرار ترامب داخل الولايات المتحدة، وصولاً إلى استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس، وخارجها، تعود إلى أن القرار لم يضع في اعتباره، خاصة من حيث التوقيت، سلسلة من التعقيدات والاعتبارات المهمة.
وعلى سبيل المثال فإن ترامب أعلن أنه قد تم «سحق داعش»، وبالتالي فلم يعد هناك مبرر لوجود القوات الأمريكية في سوريا، وأن دول المنطقة، خاصة تركيا، تستطيع القضاء على فلول التنظيم. بينما يعرف المتخصصون أن هناك ما يتراوح بين (20-30) ألف إرهابي «داعشي» في منطقة الحدود السورية- العراقية، وتصل بعض التقديرات بعددهم إلى (40) ألفاً.
كما أعلن ترامب ما يفيد بأنه يطلق يد تركيا في شمالي سوريا، لتضرب الإرهاب «الداعشي»، والحقيقة أن «الإرهاب»، الذي يهم تركيا القضاء عليه هو «الإرهاب الكردي»، متمثلاً في الحزب الديمقراطي الكردستاني، «فرع حزب العمال الكردستاني - التركي في سوريا»، ووحدات الحماية الكردية التابعة له، والتي تمثل عماد (قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، والمجالس الإدارية الخاضعة لهما.. وليس «داعش».
وهكذا بدأت حشود ضخمة من القوات التركية، تتدفق نحو مناطق الحدود الشمالية السورية «مناطق تمركز الأكراد»، بينما تنطلق من أنقرة التهديدات والتعهدات بالقضاء على «الإرهاب الكردي» وليس «الداعشي».
وإزاء هذه التهديدات الجدية كان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، مضطراً للإعلان عن أن الولايات المتحدة تسعى لضمان «ألا يقوم الأتراك بذبح الأكراد بعد الانسحاب الأمريكي»، وأن مستشار الأمن القومي بولتون سيزور أنقرة للحصول على هذا الضمان، ومعروف طبعاً إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى تعهدات أردوغان. ومعروف كذلك أنه في حالة هجوم تركيا على مناطق الأكراد، فلن يكون أمام هؤلاء إلا خياران أحلاهما مر: إما الانسحاب من قتال «داعش» في منطقة شرق الفرات، للاشتباك مع القوات التركية المهاجمة، ومعها قوات الجيش السوري الحر التابع لأنقرة، والذي يعمل كغطاء للقوات «التركية»، وإما الهرب إلى كردستان العراق أو إلى الداخل السوري، وفي الحالتين تتحقق ل«داعش» مصلحة كبرى.
والواقع أن اهتمام تركيا بمحاربة الإرهاب يمكن قياسه بالنظر إلى ما يحدث في منطقة خفض التوتر في إدلب وما حولها «ريف حلب الغربي، وريف حماة الشمالي، وريف اللاذقية الشمالي الشرقي»، حيث ترتع قوات النصرة «هيئة تحرير الشام»، والجيش الإسلامي التركستاني وحراس الدين، وغيرها من المنظمات الإرهابية «المصنفة دولياً إرهابية»، وتشن الهجمات على المدن والقرى السورية، ومواقع الجيش السوري كل يوم دون أن تحرك تركيا ساكناً ضدها، كما كان يفترض بمقتضى اتفاق سوتشي بشأن إدلب (17 سبتمبر/أيلول 2018).
والأسوأ من ذلك أن تركيا سحبت الآلاف من المجموعات السورية الخاضعة لها، وأرسلتها إلى المناطق الشرقية من الحدود السورية- التركية لتكون بمثابة «غطاء سوري» للحشود التركية، التي تتأهب لمهاجمة منطقة شرق الفرات، وشجع هذا قوات النصرة «جبهة تحرير الشام» على مهاجمة الفصائل المسلحة الأخرى، الخاضعة لتركيا ك«أحرار الشام»، و«نور الدين زنكي» وغيرهما، وضم أكثر من ثلاثين قرية وبلدة إلى مناطق نفوذها بحيث أصبحت «النصرة»، تسيطر على الجزء الأكبر من منطقة إدلب، ودون أن تحرك القوات التركية ساكنا. ويتيح لنا ذلك كله تكوين تصور عن الطريقة التي تنوي بها تركيا محاربة إرهاب «داعش» في منطقة شرق الفرات والحدود السورية- العراقية.
الواقع أن ما يهم تركيا في الشمال السوري أمران اثنان، الأمر الأول: تدمير الوجود الكردي شمالي سوريا، تحت ذريعة «مكافحة الإرهاب»، وإحكام الحصار على الأكراد الموجودين جنوبي، وجنوب شرقي تركيا، وبصورة أخص على حركة عناصر حزب العمال الكردستاني، من ناحية الجنوب.
الأمر الثاني: استغلال فرصة حالة الحرب والوجود الأمريكي، والضعف المؤقت الذي تعانيه الدولة السورية في منطقة الشمال السوري، للتوسع في هذه المنطقة، تحت غطاء من قوات «سوريا» عميلة «الجيش الحر وخلافه»، وتقدم ستاراً للاحتلال التركي، تحقيقاً لأحلام وطموحات إمبراطورية «عثمانية» قديمة، في هذه المناطق ذات الأرض الخصبة، والمياه الوفيرة، وثروات النفط والغاز، وأيضا ذات البنية السكانية والاجتماعية الأقل تماسكاً من بقية أراضي سوريا المركزية، بما فيها غرب الفرات وحلب «أقليات قومية، وعرقية صغيرة، وعشائر عربية ضعيفة.. إلخ».
تاريخ تركيا مع سوريا يشهد بذلك، بدءاً من اغتصاب وضم لواء الإسكندرونة (1939)، كما يشهد به الحاضر، حيث تشق تركيا الطرق بين مقاطعتها الجنوبية وشمال غربي سوريا «إدلب/ عفرين / الباب/ أعزاز.. إلخ» حيث طردت نحو (350) ألف سوري من منطقة عفرين وما حولها، وحيث توزع بطاقات الهوية التركية على المواطنين السوريين «عملية تتريك واسعة».. إلخ.. إلخ.
لهذا يلفت النظر بشدة أن جون بولتون يشترط على الأكراد مقابل ضمان سلامتهم ألا يسلموا مناطقهم إلى الجيش السوري، ولا القوات الروسية الحليفة.. وإنما إلى القوات التركية، ولهذا تحدثنا في مقال سابق لنا (الخليج 27 ديسمبر/كانون الأول 2018) عن «الصفقة الكبرى» بين ترامب وأردوغان، ولهذا تضغط أمريكا على الأكراد لكيلا يسلموا «منبج» إلى القوات السورية أو الروسية، وتتلكأ في الخروج من المدينة.
إذن، فإن ترامب يريد أن يبيع الأكراد بضمانات لفظية واهية، ومعهم شمالي سوريا إلى أردوغان مقابل استعادته إلى حظيرة «الناتو»، والتحالف الوثيق مع أمريكا، وضرب تعاونه المتشابك مع روسيا وإضعاف نفوذ موسكو.
ويستطيع الأكراد إفشال هذه الصفقة كلياً أو جزئياً، وإنقاذ رؤوسهم إذا كفوا عن إهدار الوقت وسلموا مناطق الحدود بسرعة إلى الجيش السوري، والتحالف مع القوات الروسية.. كما يستطيع العرب إنقاذ الموقف إذا سارعوا إلى إعادة العلاقات مع دمشق، كما فعلتها الإمارات العربية المتحدة، وتعزيز شرعيتها الدولية، وبذلك يوفرون دماء عربية غالية ستسيل لتحرير المناطق التي تريد تركيا احتلالها، لأن سوريا لن تسكت على احتلال أراضيها الشمالية، مهما تنوعت سبل المقاومة.
سرعة التحرك مطلوبة.. لأن الوقت الآن كالسيف.. فعلاً.
* كاتب مصري