عن رحيل الفنان اللبناني عزت مزهر

الحجر شاهد على ديمومة الحضور الإبداعي
12:56 مساء
قراءة 4 دقائق

كان ندّاً صلباً للمواد القاسية والصلبة، لذلك كان يحمل كامل الاستعداد لمواجهة الكتلة الحجرية وهو مملوء بالفرح والتصميم . قلت له ذات يوم وهو منغمس في عملية النحت خلال سيمبوزيوم، مدينة عاليه الجبلية اللبنانية: هل تتقدم نحو الكتلة الرخامية برهبة أم باندفاع يحمل تصميماً شبه متكامل عن العمل الذي ستنجزه؟ كان جوابه بسيطاً ومدهشاً حين أشار الى ضربة الازميل الاولى، فمنها تنطلق الضربة الثانية، وعلى الضربتين يتبلور الشكل المطلوب .

هذا النوع من النحاتين الجدد، كان يتوقع حضورهم، نحاتو الرعيل الاول اللبنانيون لأن أساتذة مادة النحت في معهد الفنون آنذاك، كانوا يدركون ضرورة بزوغ حالة التجاوز والتحدي على ايدي تلامذتهم الذين شدوا الرحال أوائل وأواخر سبعينات القرن الماضي الى باريس لدراسة فن النحت .

نحن نتحدث عن عزت مزهر كنحات ينتمي فعلاً الى الرعيل الثالث . لكنه واقعياً ينتمي الى الحدث الذي أنصهر فيه . بفعل كونه ابن مدينة صغيرة تقع جنوبي بيروت وعلى حافة البحر الابيض المتوسط . وهي محاطة بالهضاب والبساتين .

وإذا أدركنا مدى عمق الانفعالات وحدّتها عند عزت مزهر، فسوف ندرك ايضاً مدى عمق وقوة الحدث الآني على شخصيته، انه كائن مجبول بالآن . وكأنه عبر هذه الشخصية أدرك مهمته كنحات بقدر ما أدرك حضوره كإنسان يعيش علاقات متراصّة في وحدة شبه عشائرية او عائلية كبيرة اسمها (آل مزهر) الذين يسكنون ويملكون أغلب (حارة الناعمة) .

ان مهمة النحات اصبحت على ما يبدو البحث عن ذلك (الآن) الذي عنده يتجه السابق واللاحق نحو نقطة واحدة . لأن زمن الفعل النحتي عند عزت مزهر آنذاك كان زمناً تدميرياً شرساً ليس فيه الا قانون الإلغاء مقابل الحضور - نعني به زمن الحرب الأهلية في لبنان .

نحات في مهب هذا اللهيب، معناه عذاب ذاتي لا ينتهي ولا يبتدئ الا بالغضب . ولهذا جاءت اغلب أعماله النحتية في تلك المرحلة معبرة عن عمق الأزمة والمأساة . حيث نحت على الصخر لا حياة لمن تنادي والمتحجر، والعقدة اللبنانية من الرخام عندما كان في كندا منتظراً بزوغ الحلّ الذي يوقف الحرب .

ومع تطوّر الحدث كان يتجاوب مزهر نحتاً . لذلك جاءت منحوتة اليد التي تمسك بالشريط الشائك الحدودي وتقطعه، لتعبر عن حادثة وقعت في الجنوب اللبناني في منطقة أرنون عندما هجم الطلاب على الشريط الذي نصبته اسرائيل وانتزعوه بأيديهم العارية وجلبوه الى رئيس الجمهورية، قائلين لقد تحدينا القرار الاسرائيلي بأيدينا وأجسادنا وما تبقى عليك سوى أن تحرك الجيش .

عزت مزهر انتمى كلياً الى هؤلاء اللبنانيين الذين اندمجوا بالهمّ الوطني . متخطين حدود الطوائف والمناطق ومعلنين وحدتهم وصحوهم المنتظر . لهذا كان لفن مزهر نكهة تعبيرية خاصة، انه لم يكن نمطياً ينتمي الى خط استرسالي واحد، بل كان اقرب الى الابتكاري السريع التأثر، الذي تأتيه المواضيع من الخارج الى الداخل . لكن الداخل عند هذا النحات كان يمتاز بحسّ عفوي يصل احياناً الى الدرجة الفطرية المبالغ بها . ذلك انه بقي راوياً ضيعوياً للحدث، وليس مفسراً ايديولوجياً له .

انه وضوح حي لأوضاع متنوعة المظاهر مع ولاء مهني كامل للعمل النحتي . ولهذا قلت عنه ذات يوم انه حالة من السكون والاستقلال عن المحيط في قوة الارتباط به، لذلك كان سلوكه النحتي منحصراً بالتصالح النفسي او الذاتي، مع العالم القريب الذي اندمج فيه كلياً .

نلاحظ أن نحت عزت مزهر بالذات وبمعزل عن الدراسات النقدية عن النحاتين الآخرين امثال شربل فارس، شوقي شوكيني، بسام كيرياوس، وغيرهم، لم يدرس انطلاقاً من بعده الحسي، بل درس على اساس انه ظاهرة تعبيرية اخرى . واذا أدركنا أن صفة التعبيرية من العمومية والشمولية بحيث تحتوي أغلب الاتجاهات الارتجالية . فإننا سنخلص الى نتيجة مغرقة في عموميتها، بعيدة عن التخصيص المطلوب في دراسة النحت ببعديه المداري والبارليافي .

نصل عبر نحت مزهر الى خصائص اخرى ربما كان ابرز ما فيها الجوانب الحسية والانفعالية . فعلى المستوى الحسي نجد أن نحت مزهر يحتوي بالضرورة على الموضوع أو الثيمة، انه اقرب الى النص النحتي الذي يعلن عن مضمونه عبر شكله كأنه بمثابة العنوان لهذا النص، أما على المستوى الانفعالي فإن الحدث الكامن وراء حالة النحت، والذي دفع الى انتاج المنحوتة قد لامسه وجدانياً وربما مصيرياً . وخلق لديه احساساً لا متناهياً .

لم يكن عزت مزهر يهاب قامة الحجر البكر، بل كان ينظر الى ما يمكن أن يكمن في جوهره قبل أن يقشره النحات من زوائده اللانحتية . وهنا تبدو حالة الإقدام وثوقاً بالطاقة وبالمعرفة النحتية، وهي في الواقع معرفة المعمار بالمادة وبالنتائج التي ستكون بعد معالجة وتكوين المادة المعمارية . ألم نقل إنه مهندس ايضاً؟ لكن هذا المهندس الحجري يقترب كثيراً من ذاته المندمجة بالآخرين عندما ينحت هواجسه المشتركة بينه وبين الاخر، وينحت احلامه ايضاً . وربما نحت العديد من مخاوفه، تحت عناوين شتى، وضمن مواضيع تبدو للوهلة الاولى أقرب الى الهواجس .

كان يمكن لنحات مثل هذا الكائن النشط المفعم بالحياة وبالفعل ان يعيش عمراً اطول . وان ينتج اكثر، فهو مملوء بالمواعيد والافعال المنتجة . حيث لم يزل أمامه الكثير من الحجر والصخر والرخام والحديد والخشب، لكي يتعامل معه ويحوله الى مواضيع لها عناوينها في الاشكال التي تكشفها قامات المواد . لكن ما الذي يمكن أن يفعله جسد كائن حساس ينعطب فجأة، ويصاب بما يجعل من رحيله محتملاً؟

موت النحات عزت مزهر لحظة صمت في فراغ سؤال أبدي لا جواب له . لكن لماذا قرر الصمت المطلق أن يكسر إزميل هذا النحات اللبناني الصديق؟

عزت مزهر ومهما كتبنا عن رحيلك فإننا سنحتاج كثيراً عندما نفتح سجل منحوتاتك التي أنجزتها .

إضاءة

عزت مزهر من مواليد حارة الناعمة، جنوبي بيروت، لبنان .

مهندس ديكور .

رسام ونحات .

استاذ في الجامعة اللبنانية منذ 1975

كان نائباً لرئيس جمعية الفنانين اللبنانيين .

عضو اتحاد النحاتين الفرنسيين .

عضو الجمعية العالمية للفنون AIAP

أقام وشارك في العديد من المعارض الفنية في لبنان والعالم .

صمّم ونفذ العديد من الشهادات والأوسمة والدروع والحدائق .

حائز العديد من شهادات التقدير والأوسمة والميداليات .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"