غزة.. استراحة المحارب

04:06 صباحا
قراءة 5 دقائق
حلمي موسى

انتهت جولة جديدة من جولات الصدام بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال في قطاع غزة بما يشبه التعادل بعد أن حاول الاحتلال بعدوان واسع ومكثف «كسر قواعد اللعبة» و«استعادة الردع»، وفق إعلانات قادته. وقد لعبت في إنتاج هذه النتيجة ظروف ميدانية وارتباطات زمانية ساهمت في تقصير أمد هذه الجولة وعدم اتساعها في ظل تناقض واضح لدى العدو بين تهديداته وسياساته.
بحسب تعليقات «إسرائيلية» فإن حكومة نتنياهو، التي أنهت الانتخابات بفوز واضح، حاولت الإثبات لجمهورها أنها تحررت من العراقيل التي تمنع استعادتها لقدرة الردع. فعمدت إلى الرد على مسيرات العودة بمزيد من الشدة عبر قنص مشاركين آملة عدم رد الفلسطينيين. وعندما جاء الرد على شكل قنص ضابط صهيوني، دخل الاحتلال في دائرة توسيع القصف ليشمل مواقع بعيدة للمقاومة مظهراً استعداده لتوسيع المواجهة إذا ما صدر أي رد فعل من جانب المقاومة. وردت المقاومة بشكل مدروس باستهداف عربات عسكرية على الحدود بصواريخ كورنيت وبإطلاق صواريخ على مستوطنات غلاف غزة. ولجأ الاحتلال هذه المرة إلى توسيع عدوانه ليستهدف أبراجاً ومقرات ومنشآت ومقاومين ومدنيين فلسطينيين فجاء الرد بتوسيع نطاق الصواريخ لتصل إلى اسدود وبئر السبع والتهديد بضرب «تل أبيب».
ووجد الاحتلال نفسه في وضع انزلاق نحو مواجهة واسعة قد تعرقل تحقيق بعض أهدافه الاستراتيجية المعلنة في ظل ارتياح لوضعه الدولي. فالإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب، لا تتأخر في تقديم الدعم السياسي والعسكري لحكومة نتنياهو عبر إدانة كل فعل فلسطيني مقاوم ومنع أي إدانة للاحتلال في المحافل الدولية. ووصل الارتياح «الإسرائيلي» لهذا الواقع لدرجة تخوف فيها معلقون من داخل الكيان من عربدة يمينية قد لا تجد من يكبحها دولياً. ولكن حكومة نتنياهو، المرتاحة للانقسام الداخلي الفلسطيني من جهة والراغبة في توجيه ضربة سياسية قاصمة للفلسطينيين بعد الإعلان عن الصفقة الأمريكية، لا تريد حدوث مواجهة تصرف الأنظار عن أهدافها المعلنة.
وترافق العدوان «الإسرائيلي» على قطاع غزة هذه المرة بدرجات متفاوتة مع ظهور التناقض بين المستويين العسكري والسياسي حول سبل التعامل إلا أن المنطلق الأولي كان الرغبة في توجيه ضربة قاسية للمقاومة. إذ لم يكن مرغوباً فيه استمرار ظهور المقاومة في قطاع غزة، البائس والضعيف، كند ل «إسرائيل». وقد تكون هذه الفكرة إحدى دوافع قادة «إسرائيل» للتخبط استناداً إلى معرفتهم بما يملكون من قوة وإلى تقديرهم لمقدار ضعف الفلسطينيين. وفي كل حال واضح أن سوء التقدير، في هذا الجانب، يعود للخلط بين قواعد الرياضيات والكيمياء. فالصمود الأسطوري لقطاع غزة في مواجهة القوة «الإسرائيلية» يربك حسابات موازين القوى ويدفع إلى التفكير بقواعد التفاعل الكيماوي.
ولكن بعد استمرار الجولة في ظل إعلانات متكررة من قادة «إسرائيل» بأن العدوان لن يتوقف إلا بعد أن تطلب المقاومة ذلك وبعد تغيير «قواعد اللعبة». وأشاع قادة «إسرائيل» أنباء عن رفضهم مساعي الوساطة الدولية والعربية معلنين عن اشتراطات جديدة لوقف العدوان. وتحدث الناطقون بلسان حكومة نتنياهو عن أن هذه الجولة تختلف عن سابقاتها وإنها ستطول وأن الجيش بدأ في حشد قوات برية بقصد الاستعداد لاجتياح القطاع. وخلال وقت قصير جرى الإعلان عن وقف لإطلاق النار يستند إلى تعهد بوفاء الاحتلال بالتزاماته بتخفيف الحصار والتي كانت ضمن تفاهمات جولات سابقة.
ولم يجد الاحتلال بداً من تبرير تراجعه عن تهديداته وإعلاناته إلا بتبادل الاتهامات. وأعلن ساسة «إسرائيليون» أن قيادة الجيش والشاباك هما من أوصى بقبول وقف النار بمبرر أن الظروف غير مناسبة لمواجهة واسعة وأنه لا ينبغي العمل وفق أجندة المقاومة وتوقيتاتها. ولم يقبل الجيش «الإسرائيلي» أن يتهمه الساسة بذلك فأصدر بياناً واضحاً قال فيه إنه تصرف طوال المواجهة وفق تعليمات سياسية تقول بالعمل على أن لا تقود العمليات العسكرية إلى مواجهة شاملة.
ومهما يكن من أمر، فإن الخلاف العلني بين المستويين السياسي والعسكري لم يمنع ظهور خلافات واضحة داخل المستوى السياسي نفسه ليس فقط بين الحكومة والمعارضة وإنما داخل الليكود ومعسكر اليمين أيضاً. ولم يكن أمام نتنياهو بد من الإعلان عن أن وقف النار ليس نهاية المطاف وأن المواجهة لم تتوقف وأن الجيش «الإسرائيلي» وجه ضربات موجعة جداً ورادعة للمقاومة. ولكن إعلان نتنياهو سرعان ما اصطدم بوقائع على الأرض بينها تهديد المقاومة بالتصعيد إذا لم تف «إسرائيل» بتعهداتها وفق تفاهمات وقف النار. كما اصطدم حديثه عن الردع بما جرى يوم الجمعة الفائت في مسيرات العودة حيث استمر الصدام الشعبي على الحدود واستمر إطلاق البالونات الحارقة.
في كل حال أثبتت الجولة الأخيرة من المواجهة أن محاولات الاحتلال، في ظل قيادة أفيف كوخافي للجيش، لم تحقق نتائج أفضل مما كانت في ظل قيادة رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت. وقد حمل كوخافي معه أفكاراً بشأن ما أسماه «تشديد البراغي» وهي تستند إلى فكرة «الإصبع الرخو على الزناد» بما يعنيه من رد قاس وسريع ومن دون اعتبار لما يسمى ب«الضرر المحيطي» وهو إلحاق الضرر بالمدنيين. وكان رد المقاومة واسعاً ومركزاً بحيث أطلقت صواريخ بكثافة كبيرة على مستوطنات غلاف غزة وجرى استهداف عربات عسكرية على الحدود أوقعت خسائر في الأرواح. عموماً أظهرت نتائج الجولات الأخيرة، من دون ريب، أن مصير «تشديد البراغي» كان كمصير «نظرية الضاحية» وأن الردع يتآكل حيث باتت المسافة الزمنية بين الجولات أقصر بكثير مما كان في الماضي.
ومن الواضح أن كل ما يحدث في قطاع غزة يقع في نطاق منهج «إدارة الصراع» حيث يبدو أن الاحتلال عاجز عن حسم الأمر بشكل واضح لصالحه في حين لا تملك المقاومة القدرة على إزالة الاحتلال أو فرض شروطها عليه. ولذلك فإن التفاهمات حول تخفيف الحصار على قطاع غزة جرى الاتفاق عليها ثلاث مرات خلال نصف العام الأخير من دون أن تتحقق حتى الآن. وتتضمن التفاهمات جداول زمنية لإخراج القطاع من دائرة البؤس والحصار وهي جداول يحاول الاحتلال التملص من تنفيذها أو اشتراط ذلك بأمور أخرى بينها استعادة الأسرى اليهود أو جثامينهم من دون مقابل.
لقد لخص المعلق العسكري للقناة العاشرة، ألون بن دافيد، جولة الصدام الأخيرة بالقول إنه لا الجيش ولا نتنياهو ادعيا في نهاية الجولة بأنهما استعادا الردع، «لقد اشترينا في أفضل الأحوال بضعة أسابيع من الهدوء. ولن يقف أحد أمام سكان الجنوب ليقول لهم الحقيقة البسيطة: المشكلة في غزة ليست عسكرية وليس لها حل عسكري». والأهم أن نتنياهو وحكومته أيضاً لا يريدون الحل السياسي مع الفلسطينيين لا في غزة ولا في الضفة أيضاً ما يعني أن هدوء اللحظة ليس سوى استراحة محارب بانتظار الجولة المقبلة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"