قصور الرصافة وأبوابها

بغداد درّة العواصم
13:45 مساء
قراءة 4 دقائق

يتصل ظهور محلة الرصافة بالتخطيط لاستيطان الجانب الشرقي من بغداد، سنة (151ه - 768م) أي في الضفة الشرقية لنهر دجلة قبالة المدينة المدورة . وقد بدأ ذلك في أيام الخليفة المنصور، كما يقول أغلب المؤرخين العرب . وقد انفرد اليعقوبي بأن إعمار الضفة الشرقية لدجلة قبالة المدينة المدورة، كان سنة 143 هـ ، وأن التخطيط لإعمار الجانب الشرقي، بدأ منذ أوائل تأسيس المدينة المدورة، كجزء من الخطة العامة لعمران هذه المنطقة بعد الانتهاء من عمران المنطقة الغربية، لا لغرض عسكري معين .

ويستند رأي المؤرخين والعلماء، هذا، إلى أن عمران الجانب الشرقي واتساع تمدده، إنما يعود إلى أن الجانب الغربي اكتمل إعماره في وقت مبكر، ولم يعد فيه مجال للتوسع . وينهض هذا الرأي على روايات وثائقية تؤكد أن الجانب الشرقي، نزل الناس به قبل سنة 151 ه، ومنها ما يفيد أن بعض الشخصيات الإسلامية البارزة دفنت في المقبرة التي صارت تسمى فيما بعد مقبرة الخيزران، وهي في الجانب الشرقي . وممن دفن في تلك المقبرة هشام بن عروة المتوفى سنة 145ه وأبو حنيفة النعمان بن ثابت المتوفى سنة 150ه ومحمد بن اسحق المتوفى سنة 150ه . ولا بد أن هؤلاء وغيرهم ممن تذكرهم المصادر، كانوا يقيمون عند وفاتهم في الجانب الشرقي من دجلة .

مركز دفاعي

استناداً إلى صوابية هذه الآراء التاريخية والوثائقية، يمكن لنا أن نطمئن إلى أن محلة الرصافة كان قد بدأ مشروع عمرانها مع بناء بغداد في أيام الخليفة المنصور وعلى يديه، قبل أن يجد فيها موقعاً استراتيجياً ذا شأن للدفاع عن المدينة المدورة مركز الخلافة، حيث قصر الخليفة ودوائر الدولة الناشئة . ولهذا فإن ثكنات الجند ومن ثم عسكر المهدي، كانوا قد تموضعوا في محلة الرصافة العامرة بأهلها، مما جعل عدداً من الباحثين يقطعون بأن عمران الجانب الشرقي بدأ في وقت مبكر وبمعرفة الخليفة المنصور وتخطيطه، كجزء مكمل لعمران الجانب الغربي، ويتسم بمظاهره نفسها من حيث أن نزلاءه الأولين هم ابنه وحاشيته وأهل بيته، بالإضافة إلى تشكيلات جنده كلها، ممن يرتبطون بالولاء للدولة الجديدة ويعتمدون في معاشهم على عطائها .

فمحلة الرصافة في الجانب الشرقي من دجلة، هي استكمال لمشروع الخليفة المنصور العمراني على الجانب الغربي منه . وتثبيتاً لذلك وتأكيداً عليه، كان انتباه الخليفة المنصور لضرورة تعزيز محلة الرصافة بالجند وتأسيس ثكنات عسكرية فيها لأجل حمايتها والتأكيد على أهميتها من وجوه العبث بها . ونزول محمد المهدي فيها لحراسة قصر باب الذهب، في المدينة المدورة عاصمة الخلافة، إنما هو أمر ينسجم مع أسلوب المنصور نفسه الذي أقطع جميع أولاده إقطاعات خارج المدينة المدورة، بعيداً عن قصره ويفصله عنهم الخندق والأسوار ونهر دجلة، ولم يجمع هؤلاء الأولاد في إقطاع أو قصر واحد . ومن هنا كان تقدير المنصور لحكمة عنده، أن ينزل المهدي ولي عهده قبالته في الشرقية ليشكل له في محلة الرصافة حامية عسكرية خارج المدينة المدورة، تكون حرساً له في الطرف الجنوبي الشرقي، حيث كان يستشعر فيه الخطر على الخلافة .

شهدت محلة الرصافة تطوراً عمرانياً عظيماً، بعيد نزول ولي العهد محمد المهدي فيها . وقد أقام عليها المنصور جامع الرصافة الكبير، وكان بنيانه أعظم من بنيان جامع المدينة المدورة بكثير . ثم شيد المهدي قصره على مقربة من هذا الجامع . وكذلك شيد قادته ورجاله دورهم العظيمة على الاقطاعات التي أقطعها المهدي لهم في الشمال الشرقي، وكذلك في الجنوب الشرقي . ويذكر اليعقوبي في كتابه البلدان (ص152) من أسماء تلك الاقطاعات، محلتين أساسيتين: محلة الشماسية ومحلة المخرم . وكان المنصور أحاط الرصافة بكل قطاعاتها بسور وخندق وميدان وبستان . وقد أجرى الماء من نهر شقه المهدي إلى الرصافة .

محلة أبي حنيفة

وفي الجهة الشمالية من جامع الرصافة وليس بعيداً عنه، وبمحاذاة نهر دجلة كانت تقع المقبرة المشهورة بترب الخلفاء . وقد دفن فيها العديد من الخلفاء العباسيين المتأخرين . ودفن الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت إلى شمال جامع الرصافة، فعرفت المحلة التي تحيط بقبره بمحلة أبي حنيفة النعمان . وكانت وفاته في العام 150هـ - 767م، حيث كانت المقبرة المشهورة باسم مقبرة الخيزران، نسبة إلى الخيزران زوجة الخليفة المهدي، فعرفت فيما بعد باسم مقبرة أبي حنيفة النعمان .

يذكر المؤرخون أيضاً أن الخليفة المهدي، لم يسكن كثيراً بقصر الرصافة . فقد حج سنة 160 هـ وسافر إلى الموصل فبيت المقدس سنة 163 . وبعيد عودته، نزل في عيساباذ من الرصافة، وبنى فيها قصر الطين سنة 164ه وثم قصر السلامة . وكان قصر الرصافة لا يزال عامراً، وشهد ولادة الأمين فيه سنة 169 هـ مما يدل على أن الرشيد كان قد سكنه أيضاً . وعن محلة عيساباذ، يشير البلاذري في فتوح البلدان، إلى أن الخليفة المهدي، كان أكثر نزوله فيها، في أبنية بناها هناك .

وفي عهد المعتصم وبعد عودته من سامراء سنة 251 هـ - 865م، عرفت بغداد سورين عظيمين: الأول يحيط بالجانب الشرقي الذي كان يضم إلى الرصافة الشماسية والمخرم وعيساباذ، وأما السور الثاني فقد كان يشتمل على المحال والأرباض التي تقع حول المدينة المدورة . ومن أبرز أبواب الرصافة باب أبرز وباب سوق الدواب وباب خراسان وباب البردان وباب الشماسية . ولهذا أصبحت بغداد بجانبيها الغربي والشرقي في أواخر القرن الثالث محصنة قوية، أشبه ما تكون بحلقة يدور حولها السور الذي بناه الخليفة المستعين من جميع أطرافها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"