"متحف الشارقة البحري" رحلة على سفن الأجداد

يضم قطعاً تعود لـ 7000 سنة
12:45 مساء
قراءة 7 دقائق
من ليس له ماض فليس له حاضر ولا مستقبل، كلمات نحفظها جميعاً من الأقوال المأثورة للمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، وتتعاظم دلالة هذه الكلمات لدى العاملين في مجال المتاحف في الشارقة لذلك يرددونها مع كل متحف يفتح أبوابه في الإمارة، مؤمنين بأن المنافسة أكاديميات مفتوحة، لاقتفاء أثر الأجداد والسير على خطاهم والتعلم منهم.

يأتي افتتاح متحف الشارقة البحري في إطار سعي إدارة متاحف الشارقة إلى التركيز على الحياة البحرية، والتي كانت تشكل جزءاً رئيسياً من تراث المنطقة، التي كان سكانها يعتمدون على صيد الأسماك واللؤلؤ، ويعد المتحف ثمرة توسعه للمتحف البحري القديم الذي كانت منطقة التراث تحتضنه قبل ذلك.

المتحف الذي اصطحبتنا في زيارته أمينته خولة المحرزي، ومساعدتها سميرة الغيص، ويقع في منطقة الخان مطلاً على بحيرة الخان، يظهر للزوار بالون الماء الزرقاء وكأنه قطعة متلألئة من الخليج.

والمتحف مكون من طابقين الأول يحتوي على قاعتين، الأولى فرعية والأخرى رئيسية، وتضم الفرعية العديد من الآثار القديمة، أما الرئيسية فتعرض نماذج وصوراً متعددة من السفن الشراعية، والقوارب، وأدوات الصيد، والأسماك، والغوص، بجانب صور لأهم الشخصيات البحرية والأدوات اليدوية التي استخدمها القلاف في بناء أنواع متعددة من السفن وغيرها، كما تضم متجرا للهدايا الرمزية التي تتعلق بالحياة البحرية، ويحتوي الطابق الثاني على مكتبة وحجرة للدراسة والأبحاث وورش العمل.

عند دخولك من الباب الرئيسي للمتحف يلفت ناظريك على اليسار، مجموعة من الصناديق الزجاجية التي تحتوي مجموعة من الآثار القديمة، من بينها لؤلؤة وصفت أنها من أقدم اللآلىء في العالم، ويعود اكتشافها إلى سبعة آلاف سنة في موقع لمقبرة أثرية في الشارقة، وكانت تستخدم للزينة تماماً كما هو الحال الآن.

كما يحتوي ركن الآثار على مجموعة من الأصداف القديمة التي تعود إلى سبعة الآف عام، وتم اكتشافها بين مخلفات بحرية، عن طريقها تعرف العلماء على طبيعة النظام الغذائي لأهل الشارقة الذين كانوا يعيشون على خير البحر.

كما يوجد من بين المقتنيات رأس حجري حاد يعتقد أنه كان يستخدم في صيد الأسماك أو الحيوانات البرية.

كما يحتوي ركن الآثار على قطع تم اكتشافها بفعل التبادل التجاري، الذي شهدته المنطقة منذ أربعة الآف عام، ومن بين تلك القطع إناء صنع في دلمون بالبحرين، وتم نقله وسط بضائع تجارية أخرى عبر البحر، وبجوار هذا الإناء يوجد مشط عاجي، صنع من أنياب الفيل، وهو دليل على قيام علاقات تجارية مع الحضارة الهندية.

ولم يكتف البحر بتوفير مصادر الغذاء لأهل الشارقة الأوائل، بل كان أيضاً مصدراً للأدوات التي يمكن استخدامها في الحياة اليومية، ومن بين تلك الأدوات، صدفة على شكل ثمرة التين كانت تستخدم كآنية طبيعية لإرضاع الأطفال منذ 200 عام حتى وقت قريب.

وفي الجوار لتلك الصدفة يوجد جرة مصقولة، تعود أصولها إلى العراق، التي استمرت علاقاتها التجارية مع تلك المنطقة، ويوجد بجانبها جرة صغيرة للعطر أحضرت من احدى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية.

وعندما تفرع من مشاهدة الآثار، يلفت انتباهك صورة جوية كبيرة لمنطقة الخان، وتبين هذه الصورة المأخوذة في سبعينات القرن العشرين، قرية الصيد التي كانت قائمة في المنطقة، التي ضمت أيضاً حوضاً بناء وإصلاح قوارب الدهور، التي استخدمت في الصيد والغوص بحثاً عن اللؤلؤ؟ وتتوسط صالة الآثار شاشة كبيرة، تعرض أفلام وثائقية تبين طريقة الصيد وإبحار الأجداد.

تعرض صالة المتحف البحري الرئيسية مجموعة من نماذج السفن والقوارب، التي تحاكي تلك التي كان الأجداد يبحرون بها، من بين تلك القوارب الصمعا الذي يتوسط نموذجها الكبير الصالة الرئيسية للمتحف، وهو مركب إماراتي أصيل يشبه في شكله مركب السنبوك أحد أكثر المراكب العربية استخداماً. الصمعا أحد أشهر أنواع المراكب المستخدمة في صيد اللؤلؤ، في شمال الخليج العربي، طاقماً مؤلفاً من 50 إلى 60 فرداً، وتستخدم مجاديف القارب في إبعاده عن الشاطىء، ويرفع الشراع بعد ذلك، ويستخدم الغواص السلال الصغيرة منه المسماه الديين لجمع محار اللؤلؤ، عند وصول القارب إلى أماكن تجمعها. وبسبب شيوع استخدامه بين البحارين المتمرسين والمبتدئين على السواء، كان الصمعا أكبر المراكب استخداما في الامارات، كما كان محور لأنشطة صيد اللؤلؤ والتجارة في المنطقة.

وتعرض إحدى الشاشات التي يستطيع الزائز يتعامل معها باللمس، نموذجاً مستحدثاً من قوارب الغوص الجالبوت التي كان يستخدمونها الأجداد عند الإبحار على شواطئ الشارقة.

ومن بين الأنواع أيضاً قارب الشاشة، وهي مركب صغير مصنوع من النخيل، ويستخدم في أنواع الصيد القريبة من الشاطئ، كما تعرض الصالة الرئيسية نماذج لقوارب وسفن عدة مثل البدن والصمعا وغيرها.

عبر العصور

ويستطيع رواد المتحف التعرف على طرق صناعة السفن القديمة، والأدوات الغريبة التي ابتكرها الأجداد لصناعة سفنهم، بلا رسومات أو مخططات، إنما على أساس المعرفة والخبرة المتوارثة من جيل إلى آخر، كما يعرض المتحف في ركن صناعة القوارب، مجموعة من المسامير الحديدية، إضافة إلى مادة الديمار، وهي صمغية تستخرج من بعض الأشجار في الهند، وتأتي على هيئة قطع مختلفة الأحجام، كما يوجد مسمار لف بالقطن المشبع بالزيت، لمنع أكسدة وتسرب الماء إلى داخل السفينة، ومن بين أدوات صناعة السفن المقشرة، وهي قطعة حديدية تزال بها الأصداف والأعشاب المائية العالقة في قاعدة السفينة.

وتحت المقشرة توجد الكلفات وهي عبارة عن خيوط تدخل بين الألواح لتعزل المياه وتمنع دخولها داخل السفن. ومن بين الأدوات أيضاً المجدح وهي أداة تستخدم لإحداث ثقوب يدوية، ويفضلها صانع السفن إلى اليوم لأن ضررها أقل من المثاقب الكهربائية، كما كان الصانع يستخدم المثلث لضمان دقة الأبعاد.

أدوات

يوجد في المتحف أشكال عديدة من أدوات الصيد، كان أشهرها الخيط والميدار أي السنارة، ويعرض هذا القسم مجموعة متنوعة من السنانير، التي كان استخدامها في صيد الأسماك أحد أقدم طرق البحث عن الغذاء، ولا تزال مستخدمة إلى اليوم. ومن بين المعروضات سنارة يرجع تاريخها إلى نحو 500 عام، تم اكتشافها في إحدى الأماكن الساحلية التابعة لإمارة الشارقة، مما يؤكد استخدام السنارة في صيد الأسماك في الخليج منذ العصور القديمة.

كما يوجد بين عدة الصيد التي كان الإماراتي القديم القديم، النيزة وهي قطعة حديدية لها ثلاثة رؤوس مدببة على شكل رمح، وكانت تستخدم لصيد أسماك القبقب والنغر، والمنتب وهي عصا سميكة لها سنارة كبيرة في نهايتها، وتستخدم لجذب الأسماك الكبيرة العالقة بالخيط خوفاً من قطعه وتوجد أيضا القرعة وتوضع على شباك القرقور، وتعتبر علامة لمعرفة مكان القرقور في المياه، كما يعرض في قسم أدوات الصيد المكسر أي شباك الصيد، والليخ وهو عبارة عن شبكة صيد من خيوط القطن، والحلقة وهي سنارة كبيرة تستخدم لصيد القرش، والبلود ومفردها بلد، وهو وزن من الرصاص يثبت في الخيط ليشده إلى القاع. كما توجد السالية وهي عبارة عن شباك دائرية مع أثقال، مثبته حول حافتها بخيط لسحبها، وتطفو السالية على سطح الماء بعد رميها، لكن الأثقال المثبتة على الحافة تجعلها تغوص في الماء، ملتقطة في نزولها كل الأسماك العالقة مابين الشبك والقاع. وبجوار السالية يوجد القرقور وهي عبارة عن مصيدة مبتكرة على هيئة قبة، تستخدم في صيد الأسماك من دون إيذائها.

ولعالم اللؤلؤ حضوره المهم في المتحف على قدر أهميته في ذاكرة أبناء المنطقة والمعروف أن تجار اللؤلؤ البارزين المعروفين بالمحلية ببالطواويش كانوا في مواسم البيع يتعاملون مع التجار من كل أنحاء العالم، ويصدرون اللؤلؤ إلى الأسواق العالمية مثل البحرين، والهند، وسريلانكا، وشرق أفريقيا، والعواصم الأوروبية، وغالباً ما كان يباع ويشتري اللؤلؤ من خلال المزايدة السرية، حيث يقوم المشتري بعرض السعر على البائع بأستخدام إشارات يدوية، تتم تحت قطعة حمراء من القماش يحملها الطواش وتسمى المخمل، بحيث لا يراها البائعون الآخرون ويفوز بالصفقة من يعرض أعلى سعر. ويعرض قسم تجارة اللؤلؤ دميتين كبيرتين لاثنين من تجار اللؤلؤ، أثناء وزنهما لكمية من اللآلئ، بالإضافة إلى ادوات تصنيع اللؤلؤ من ملاقيط، والتربين أي المكبر، الذي كان يستخدمه الطواش لفحص حبات اللؤلؤ، ومبرد معدني صغير، والمسن الذي تسن به أدوات صقل اللؤلؤ، إضافة إلى العديد من المثاقب المعدنية الدقيقة.

وتحت عنوان أثمن من اللآلئ يعرض قسم صناعة اللؤلؤ، دفاتر نادرة عبارة عن سجلات الغوص الخاصة بجمعة السري (نوخذة محمل غوص من الشارقة)، وتسجل هذه الدفاتر تفاصيل عقود عمل الطاقم التي كان يتواجد على متن محمل جمعة في كل موسم، وكان البحارة والغواصون يوقعون عقود العمل المحفوظة في السجلات، باستخدام بصمة الإبهام المغموسة في حبر مأخوذ من الحبار.

الأطفال يبحرون

يحتوي المتحف بالإضافة إلى شاشات تعمل باللمس المنتشرة في كل أرجائه، على ألعاب للأطفال، خصصت لتحاكي الحياة البحرية، ومنها لعبة الشراع التي يستطيع من خلالها الطفل، شد الحبل المثبت في نهايته الشراع، ويمر الحبل على بكرات حديدية لتسهيل عملية السحب، ومن ثم يستطيع الطفل فرد الشراع وكأنه في عرض البحر، كما توجد لعبة المجاديف المنسدلة من بطن أحد النماذج الكبيرة للسفن، تمكن الأطفال من الجلوس عبر كراسي متحركة من التجديف وكأنهم في الماء.

حركة الملاحة

خصص المتحف قسماً للملاحة وتاريخها وطرق السير في البحر، باستخدام حركة الشمس والكواكب والنجوم، وعن طريق شاشة أفقية تعمل باللمس يستطيع الزائر، اختيار الوجهات المراد السفر إليها مثلما كان يفعل القدماء، وتوضح الأدوات الموجودة في قسم الملاحة، طرق استعانة البحارة العرب لقرون عديدة بعناصر الطبيعة في الاستدلال، فقد كانوا يهتدون في رحلاتهم بالنجوم، كما أستخدموا الشمس لتحديد الوقت بالنهار، كذلك ساعدهم المد والجزر والتيارات البحرية، والتضاريس المميزة في تحديد واجهتهم.

ومن بين المعروضات الملاحية الاسطرلاب، وزوج من الفنارات، ومفردها فنر، وهو مصباح يستخدم لتنبيه السفن الاخرى لتفادي الاصطدام في الليل، وكان يوضع الفنر الأخضر يوضع على الطرف الأيمن للسفينة، الأحمر على الطرف الأيسر، كما يوجد بوق يدوى، وتيرة أو بوصلة لتحديد الاتجاهات.

غوص على الشاشة

بجوار مركب الصمعا في الصالة الرئيسية للمتحف شاشة تعرض أفلاماً تمكن الزائر من الاستماع إلى قصص البحارة الإماراتيين، الذين عاشوا عصر ما قبل النفط، ومنهم جمعة بن حميد الذي يشرح للزائر في أحد الأفلام الطرق الأولى لصيد اللؤلؤ، على أحد مراكب الصيد في ،1940 وكان عندها في الثانية والعشرين من العمر، ورغم قصر قامته إلا أن بنية جمعة القوية كانت تمكنه من الإمساك بالحبل، الذي كان يربط بالغواص ليتدلى إلى قاع البحر على عمق 30 متراً، وسحبه عند الانتهاء من عمله. وكان جمعة يرافق أسطول الشارقة لصيد اللؤلؤ وكان يغيب خمسة شهور في كل مرة، ويروي جمعة ماجد السري المولود في قرية اللية بالشارقة، بالصوت والصورة كيفية الحياة على ظهر المركب، حيث كان من النوخذة أي ربان لمركب غوص خاص به من نوع الصمعا أطلق عليه اسم السوكا. وكان مركبه يضم طاقماً مؤلفاً من ثلاثة وسبعين شخصاً، تقاسموا مهام مختلفة فيما بينهم. وكان جمعة ورجاله يتوجهون في الربيع والصيف من كل عام، باحثين من اللؤلؤ في ضفاف المحار المنتشرة عن طول الخليج.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"