موائد الرحمن.. تجسيد رائع للتكافل الاجتماعي

إطعام الطعام.. أفضل الأعمال في رمضان
02:46 صباحا
قراءة 8 دقائق
القاهرة: «الخليج»

موائد الرحمن من المظاهر الرمضانية التي تنتشر في العديد من البلاد العربية لتوفير طعام الإفطار للفقراء وأيضاً عابري السبيل الذين تحول ظروفهم دون الوصول إلى منازلهم خلال وقت الإفطار.
فكيف تحقق هذه الموائد أهدافها ونخلصها من مظاهر الرياء التي قد تصاحبها وتؤدي إلى إهدار أجر وثواب أصحابها؟ وهل يجوز تمويل هذه الموائد من أموال الزكاة؟ وهل يمكن توجيه بعض الأموال التي اكتسبها الإنسان من مصادر مشبوهة أو لا يستريح لها للإنفاق على موائد الرحمن الرمضانية؟
تساؤلات كثيرة عرضناها على عدد من العلماء وأساتذة الاقتصاد الإسلامي فماذا قالوا في الإجابة عنها؟

في البداية يؤكد د. محمد عبد الحليم عمر، أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر، أن موائد الرحمن من أبرز المظاهر الرمضانية التي ينبغي أن نحرص عليها ليس لإطعام الفقراء والمحتاجين فقط، ولكن لتعميق مشاعر المودة بين الزملاء والأصدقاء.

ويضيف: إفطار الصائمين من أعمال الخير التي يحث عليها الإسلام، سواء أكانت تستهدف توفير الطعام للفقراء أو زملاء العمل أو غيرهم، وهو يدخل في باب الصدقات إذا كان يستهدف توفير الطعام لمن يحتاجونه، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن أسرع صدقة إلى السماء أن يصنع الرجل طعاما طيبا ثم يدعو عليه ناسا من إخوانه»، كما أنه يدخل في باب إطعام الطعام من باب المودة وهو باب خير عظيم لقوله عليه الصلاة والسلام: «خيركم من أطعم الطعام»، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ وفي رواية ما الإسلام؟ فقال: «إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام».

وإذا كانت موائد الرحمن تقام لإفطار الصائمين فهذا زيادة فضل وخير لهذا النوع من الصدقات، ورسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يقول: «من فطر صائماً كان كمن أعتق رقبة، ومغفرة لذنوبه»، كما أن اجتماع المسلمين على طعام واحد في موائد الرحمن يدخل في باب الاجتماع على الطعام وهو مندوب إليه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الطعام ما كثرت عليه الأيدي».

.. لا يقبل إلا طيباً

ويوضح د. عمر أن موائد الرحمن ليست عملاً مستحدثاً لمسلمي العصر، ولكنها سلوك قام به المسلمون السابقون استجابة لتوجيهات الرسول ووصاياه..

ولذا ينبغي الحرص عليها، والتمسك بها، والتوسع فيها، بشرط أن تكون خالية من التفاخر والرياء، ويكون تمويلها من مال طيب مكتسب بطريق حلال لقول الرسول في قاعدة عامة في الصدقات: «إن اللَّه طيب لا يقبل إلا طيبا» وخص إفطار المسلمين بأن يكون من مال حلال كما جاء في قوله صلى اللَّه عليه وسلم: «من فطَّر صائما على طعام أو شراب من حلال في شهر رمضان صلت عليه الملائكة في ساعات رمضان»، أما من أقام هذه الموائد من مال حرام، فليست بصدقة ولا يؤجر عليها لقول الرسول الكريم: «لا يكسب العبد مالاً من حرام فيتصدق به فيؤجر عليه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه».
ولا يجوز أن تمول هذه الموائد من أموال الزكاة، لأن الموائد يأكل منها الفقير والغني، ومال الزكاة لا ينفق منه على الأغنياء، ومن الضوابط الإسلامية العامة للصدقات ومنها إقامة موائد الرحمن أن تكون من أصناف طيبة يقبل مقيم المائدة أن يأكل منها استجابة لقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه».

ولذلك من الأفضل أن يشارك مقيم المائدة الصائمين فيفطر معهم وذلك حتى تحقق هذه الموائد الهدف منها بنوال ثواب اللَّه عز وجل وبركته، وتحقيق التماسك الاجتماعي باعتباره نتيجة للتكافل الاجتماعي بين أفراد وفئات المجتمع الإسلامي، خاصة في ظل حالات الاغتراب التي تسود مجتمع المدينة المعاصرة.
وبجانب الآثار الاجتماعية لموائد الرحمن في تحقيق التكافل الاجتماعي، فإنها من الناحية الاقتصادية تعمل على ترشيد الإنفاق لأن نصيب الفرد من تكلفة الطعام في هذه الموائد يقل عن حالة إعداد كل واحد منهم إفطاره منفرداً، مما يعود على الفرد والمجتمع بالنفع.

تنافس محمود

د. عبدالله النجار، أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، يؤكد ضرورة حرص المسلمين جميعاً على توثيق العلاقات الإنسانية والاجتماعية بينهم خاصة في المناسبات الطيبة ومواسم الخير، وفي مقدمتها يأتي شهر رمضان، حيث يحرص الجميع على إشاعة فضائل التعاون والتكافل والبر والإحسان.. ولا شك أن موائد الطعام الجماعية سواء أكانت في الطريق العام، أو في المطاعم والفنادق، أو في المنازل تسهم في تحقيق هذه الأهداف الإنسانية والاجتماعية.

ويضيف: إذا كانت موائد الطعام الرمضانية تستهدف الفقراء فهي عمل طيب، ومطلوب الحرص عليه، لأن كفالة الأغنياء للفقراء واجبة على المسلم في كل وقت وفي كل مكان، ويتضاعف ويتعاظم أجرها وثوابها في شهر العطاء الإنساني، شهر الجود والكرم.
وإذا كانت هذه الموائد تستهدف زملاء العمل والأصدقاء والأهل والأقارب، فهي وسيلة لتعميق مشاعر المودة والمحبة وصلة الرحم، وكل هذه مشاعر مطلوب نشرها بين المسلمين في رمضان، فهو شهر عطاء إنساني واجتماعي وأخلاقي، وواجب المسلمين وخاصة القادرين أن يكونوا قدوة طيبة في العطاء، وأن يتضاعف عطاؤهم في هذا الشهر الفضيل، وأن يسهموا في تحقيق مجتمع الكفاية الذي يسعى إليه الإسلام، بحيث يجد كل محتاج ما يتطلع إليه على يد إخوانه القادرين، وهذا يسهم في الخروج من هذا الشهر الكريم بأفضل المكاسب.
من هنا يؤكد عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر أن موائد الطعام المجردة من الرياء والتفاخر من الأمور التي ينبغي أن يتنافس فيها المسلمون في هذا الشهر الكريم، كي يطهروا نفوسهم وأموالهم من كل ما لحق بها نتيجة البخل أو الكسب الحرام، وبذلك تتحقق الألفة والمودة والرحمة بين الأغنياء والفقراء وغيرهم من أصحاب الحاجات في المجتمعات.

الجود بالثمين المحبب

ويقول: موائد الرحمن التي تنتشر في الشوارع والميادين في العديد من البلاد العربية مظهر من مظاهر الكرم الذي هو سجية أصيلة عند العرب وجاء الإسلام فنماها وأصلها وزكاها وثبتها في نفوس أبناء الأمة، وقد هذب الإسلام من سلوك الإنسان الباذل للعطاء حتى لا يسيء إلى الإنسان الآخذ، وأحاط هذا السلوك الإنساني بضوابط أخلاقية تضاعف من قيمته وفائدته ومن هذه الضوابط: أن تجود النفس بالثمين المحبب إليها استجابة لقول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم». وقوله تعالى: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون».

وهذا يعني أن تكون موائد الطعام التي تستهدف الفقراء وعابري الطريق من أجود الطعام، وبحيث يأكل منها المسلم وهو مطمئن، ولذلك من المستحب أن يأكل صاحب المائدة منها، وما أجمل أن يجلس مع ضيوفه من الفقراء ليتناول طعامه معهم.
ومن الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم الذي يعد موائد إطعام للفقراء في رمضان ألا يمن على الفقير بما يقدم له، وأن يحسن التعامل معه، فالمن والأذى يهدران الأجر والثواب، يقول الحق سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر».

أيضاً لا ينبغي أن يتباهى المسلم بهذه الموائد لأنها من عطاء الله، كما يجب ألا ينتظر صاحب المائدة الشكر من الآكلين منها، فلا يكون الكريم كريما حتى تجود نفسه ابتغاء مرضاة الله وحده، وأن تجود النفس بالعطاء عن رضا وعن حب ومن منع عن المحتاج ما هو في حاجة إليه، فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.

ثواب إطعام الصائم

سألت د. علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر السابق: هل يجوز إخراج زكاة المال في شكل إفطار جماعي للفقراء في رمضان؟
قال: الشريعة الإسلامية نوعت وجوه الإنفاق في الخير، وحضت على التكافل والتعاون على البر، فكانت الزكاة كركن للدين، وحث الإسلام على التبرع، ورغب في الهدية، وندب إلى الصدقة، وجعل منها الصدقة الجارية المتمثلة في الوقف الذي يبقى أصلُه وتتجدد منفعته؛ وذلك لتستوعب النفقة وجوه البر وأنواع الخير في المجتمع، ولذلك روى عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن في المال لحقا سوى الزكاة». وقد وصف الله تعالى عباده الأبرار بإطعام الطعام، فقال تعالى:«ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً»، وهذا يشمل رمضان وغيره، ولكنه في رمضان أعظم أجراً وأكثر ثواباً، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على إفطار الصائم، وأخبر أن من فطره فله مثل أجره من غير أن ينقص ذلك من أجر الصائم شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم: «من فطر صائماً كان له مثل أجره لا ينقص من أجره شيء»، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن شهر رمضان: «من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء».. قالوا: يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، فقال عليه الصلاة والسلام: «يعطى الله تعالى هذا الثواب من فطر صائماً على مذقة لبن، أو تمرة، أو شربة من ما، ومن أشبع صائماً سقاه الله من حوضه شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة».
وعلى هذا فإن موائد الإفطار المنتشرة في بلادنا العربية والتي يطلق عليها «موائد الرحمن» هي مظهر مشرق من مظاهر الخير والتكافل بين المسلمين، شريطة أن تكون النية فيها خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى، ولما كانت تجمع الفقير والغني فلا يجوز الإنفاق عليها من أموال الزكاة، لأن الله تعالى قد حدد مصارف الزكاة في قوله سبحانه: «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم» فجعل في صدارتها الفقراء والمساكين، لبيان أولويتهم في استحقاق الزكاة، وأن الأصل فيها كفايتهم وإقامة حياتهم ومعاشهم، كما لا يجوز الإنفاق على موائد الرحمن من مال حرام لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. وبناء على ذلك يكون الإنفاق على إفطار الصائمين الذي لا يفرق فيه بين الفقراء والأغنياء من وجوه الخير والتكافل الأخرى كالصدقات والتبرعات، لا من الزكاة، إلا إن اشترط صاحب المائدة أن لا يأكل منها إلا الفقراء والمحتاجون وأبناء السبيل من المسلمين فحينئذ يجوز إخراجها من الزكاة.

موائد عامرة بالمودة

الفقيهة والداعية الأزهرية، د. عبلة الكحلاوي، تؤكد ضرورة الاستفادة من أجواء رمضان لتحقيق التواصل الاجتماعي والإنساني بين العائلات والأسر، ولذلك ترحب بموائد الإفطار الأسرية وما تحرص عليه كثير من الأسر العربية من تبادل الزيارات خلال هذا الشهر الكريم.. وتقول: هذا مظهر طيب من مظاهر الترابط الاجتماعي التي ينميها فينا شهر رمضان المبارك، وكل ما يقوي الصلة بين المسلمين مطلوب ومشروع.

لكن العالمة الأزهرية تؤكد ضرورة الالتزام بالآداب والأخلاقيات الإسلامية التي تفرض عدم الإسراف في هذه الموائد وإهدار نعم الله، كما يحدث في كثير من موائد الطعام الجماعية في بلادنا العربية، كما تؤكد ضرورة الحفاظ على الحرمات وتجنب الاختلاط بين الرجال والنساء والشباب والفتيات والذي يجر إلى كثير من الرذائل المنهي عنها شرعا .

كما تحض د. عبلة أهل الخير القادرين على إعداد طعام الإفطار في رمضان للفقراء وعابري السبيل، وتؤكد أن هذه الظاهرة الطيبة مطلوبة شرعا، فإطعام الطعام من أفضل الأعمال والله عز وجل يقول في شأن المؤمنين المخلصين الصادقين في إيمانهم: «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً‏»‏ ورسول الله صلي الله عليه وسلم‏:‏ يقول: «أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به».. وقد أوصى صلى الله عليه وسلم بإكرام الضيف وعده من علامات الإيمان فقال‏:‏ «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت».‏

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"