موسكو وأنقرة.. احتواء تداعيات الاغتيال

05:26 صباحا
قراءة 5 دقائق
لعدة ساعات حبس المراقبون أنفاسهم في انتظار رد فعل روسيا على اغتيال سفيرها في أنقرة، برصاصات مسدس رجل شرطة تركي، في مشهد مسرحي صادم. ووجد القاتل الفرصة ليلقي خطبة استمرت دقيقتين أو ثلاثاً، أشار فيها إلى انتمائه «الجهادي» وإلى أنه ارتكب جريمته انتقاماً لما جرى في حلب، قبل أن تجيء قوات الأمن التركية وترديه قتيلاً.
قبل أن تنطلق خيالات الجمهور والمراقبين بعيداً، جاءت تصريحات كبار المسؤولين الأتراك لتضع الأمور في نصابها: لا مصلحة لتركيا في اغتيال السفير.. والجريمة هدفها الإضرار بالعلاقات التركية - الروسية المتنامية في مختلف المجالات، وخاصة بتعاون البلدين في معالجة الأزمة السورية، وسرعان ما جاءت تصريحات كبار المسؤولين الروس لتؤكد المعنى نفسه.
والواقع أن حرص كل من الجانبين على احتواء تداعيات الحادث، وبأسرع ما يمكن، كان واضحاً تماماً، عكس إدراكهما لهدف الجريمة المتمثل في إلحاق ضرر فادح بالعلاقات بينهما من ناحية، ولمغزى توقيتها من ناحية أخرى.. عشية الاجتماع المقرر في موسكو، في اليوم التالي مباشرة (الثلاثاء 20 ديسمبر/‏كانون الأول) بين وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وتركيا وإيران لبحث الأوضاع المشتعلة في سوريا، وسبل التعامل معها، لذلك أعلن بوتين مساء يوم اغتيال السفير أن الحادث ينبغي ألّا يؤثر على الاجتماعين المقررين لوزراء الخارجية والدفاع، في اليوم التالي.
وأكد وزير الخارجية الروسي لافروف أن مقتل السفير جعل الحوار بين روسيا وتركيا أكثر إلحاحاً، مؤكداً «ضرورة التوصل إلى اتفاقيات يمكن أن تدفع عملية التسوية في سورية قدماً، ومن دون تقديم أية تنازلات للإرهاب».. كما طالبت موسكو بضرورة مشاركتها في التحقيقات، ووافقت تركيا فوراً، وفي اليوم التالي مباشرة وصل إلى أنقرة فريق مكون من 18 خبيراً أمنياً روسياً.
من ناحية أخرى، فإن العلاقات السياسية والاقتصادية الواسعة بين روسيا وتركيا من الأهمية والاتساع، بحيث لا تترك حتى لمجنون في موقع المسؤولية أن يفكر في المساس بها بطريقة طفولية ساذجة وإجرامية مثل اغتيال السفير أو أي دبلوماسي مهم، وقد جربت تركيا الآثار السلبية لحادث إسقاط الطائرة الحربية الروسية أواخر العام الماضي، ما دفع الرئيس التركي للاعتذار رسمياً لروسيا لكي تعود العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها.. فما بالنا وقد نشأت وقائع جديدة في سوريا تدعو إلى تعزيز التعاون والتقارب بين موسكو وأنقرة.
من ناحية ثالثة فقد أصبح معروفاً على نطاق واسع أن روسيا هي التي حذرت أردوغان من محاولة الانقلاب العسكري التي وقعت الصيف الماضي، بعد أن التقطت المخابرات الروسية إشارات تنبئ بذلك، وهي المحاولة التي اتهم أردوغان الولايات المتحدة بالضلوع فيها بالاشتراك مع قسم من قيادات وضباط الجيش التركي وأنصار فتح الله غولن، الذي تستضيفه أمريكا، في الجيش والشرطة والمخابرات والقضاء وغيرها من مؤسسات الدولة، وهو ما أدى إلى حدوث توتر شديد في العلاقات بين أنقرة وواشنطن.
من المهم هنا أن نشير إلى أن التقارب الكبير بين الأكراد وأمريكا هو أحد أهم أسباب القلق الروسي، بشأن الوضع في سوريا، وأحد الأسباب والموضوعات الرئيسية للتفاهم بين موسكو وأنقرة، فيما يتصل بمعالجة الأزمة السورية.
لهذا كله ولأسباب أخرى لا يتسع لها المجال، كانت روسيا وتركيا مهتمتين بسرعة احتواء تداعيات حادث اغتيال السفير كارلوف.. بل إن بوتين أعرب علناً عن تفهمه لمصاعب الأوضاع الأمنية في تركيا، وبالرغم من التحفظ الروسي المعروف تجاه الدعم التركي السابق للمنظمات الإرهابية، وفي مقدمتها «داعش»، وما له من آثار سياسية وفكرية شديدة السلبية على الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية في تركيا، فقد أشار بوتين إلى إدراكه لوجود اختراقات في أجهزة «الدولة العميقة» في تركيا.
وقد ذكرنا كل هذه التفاصيل لنوضح مدى الاهتمام الذي توليه كل من روسيا وتركيا لعلاقاتهما الحالية، ونظرتهما لآفاقها المستقبلية.
ويشير التنسيق الوثيق الذي تقوم به الدول الثلاث، بقيادة روسيا إلى الدور المتعاظم الذي أصبحت تقوم به الأخيرة في سوريا، في ظل ما يشبه أن يكون انسحاباً أمريكياً من المشهد السوري، وخاصة بعد فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، ودخول إدارة أوباما في مرحلة ما يسميه الأمريكيون بوضع «البطة العرجاء»، وما هو معروف عن ترامب وفريقه من نزعات انعزالية، وخاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط، ونقل مركز الثقل في الاهتمام والنشاط إلى شرق آسيا.. وكذلك ما هو معروف عن ترامب من موقف يتسم بفتور واضح تجاه المعارضة السورية، وعدم اعتراضه على بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في سدة الرئاسة ما دام يحارب «داعش».
وإذا كان معروفاً أن طهران تقوم بدور الحليف الأساسي لدمشق، بعد موسكو ودورها الحاسم بالطبع، فإن تركيا قد أصبحت تلعب دوراً متعاظماً في سوريا خلال الشهور الأخيرة، بعد أن دخلت القوات التركية الأراضي السورية فعلاً في إطار عملية «غضب الفرات» وإصرار تركيا على طرد القوات الكردية من منطقة غرب الفرات، وهي القوات التي تمثل عماد ما يُسمى «بجبهة سورية الديمقراطية».
ويتم هذا الدور التركي بتفاهم وتنسيق مع روسيا في ظل تراجع الدور الأمريكي.

وفي هذا الإطار كان التنسيق الروسي - التركي في عملية إخلاء شرق حلب من المسلحين وأسرهم، ثم كان الاتفاق على التنسيق بين الدول الثلاث (روسيا - تركيا - إيران) واجتماع موسكو ووثيقة «إعلان موسكو» التي خرجت عنه، بما تحمله من رؤية مغايرة للإطار الذي كانت تجري ضمنه جهود التسوية السياسية في سوريا في الفترة الماضية، بما فيه وثيقتا «جنيف- 1 وجنيف- 2» وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.

وثيقة «إعلان موسكو» تدعو إلى وقف شامل لإطلاق النار في عموم سوريا «باستثناء العمل العسكري ضد «داعش» و«النصرة»، وأية فصائل تنضم إليهما» وإلى إجراء محادثات في العاصمة الكازاخية «آستانة» منتصف الشهر المقبل «يناير/‏كانون الثاني 2017» بإشراف الدول الثلاث، بين ممثلي النظام والمعارضة الداخلية والجيش الحر «الذي ترعاه تركيا» وبعض منظمات الخارج مع استبعاد الفصائل التي تصنفها روسيا وإيران كفصائل إرهابية، ولم تتم توجيه الدعوة إلى هيئة التفاوض العليا «الرياض» التي أعلن رئيسها علي حجاب رفضها لمحادثات «آستانة» وتمسكها بصيغة جنيف، بينما دعا المبعوث الدولي، دي ميستورا، إلى جولة محادثات في جنيف «8 فبراير/‏شباط 2017» أي بعد انتهاء محادثات «آستانة»!

وبينما تجري إعادة رسم خريطة القوى السياسية السورية المفاوضة تحت الإشراف الثلاثي «الروسي - التركي - الإيراني»، فإن التغيرات الميدانية تتلاحق.. فبعد استعادة الجيش وحلفائه لشرق حلب، يجري تكثيف القصف على إدلب، وحشد القوى للزحف على تدمر.. وتشدد تركيا حصارها لمدنية الباب تمهيداً لاقتحامها، لما تمثله من أهمية استراتيجية في منطقة غرب الفرات.. وتحشد الأطراف أوراقها التفاوضية استعداداً لمحادثات «آستانة». وواضح أن الأيام المقبلة في سوريا ستكون حبلى بالأحداث، أما بوتين وأردوغان فيواصلان تقديم الدروس للعالم في البراجماتية.

د. محمد فراج أبوالنور*


رئيس تحرير مجلة شؤون تركية (مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"