موسى وابنتا شعيب

قصة . . وعبرة
13:18 مساء
قراءة 5 دقائق

من مظاهر الإبداع الجميل والأخاذ للقصة في القرآن الكريم أنها تأخذ القلب والعقل معاً في لحظة تكثيف شعوري مهيمنة ومسيطرة على كل ملكات الإدراك والوعي والوجدان في آن معاً، هذا إلى جانب الامتزاج العجيب والتداخل والخلطة السحرية في تدافع الأحداث بأنواعها، وتناغمها بشكل رائع جميل بحيث لا تكاد تفرق بسهولة بين العام والخاص، الشخصي الفردي وما ينطبق على الأمة بأسرها، وهو ما يجعل لحظات العبرة ودروس الاعتبار غنية وثرية ومتشعبة في مناحي الحياة المختلفة، سياسية اقتصادية دعوية اجتماعية فلسفية وغيرها، ومن خلال كل ذلك يستطيع كل فرد أن يقتبس ويستلهم منها ما يشاء، بما يفيده في دنياه وأخراه على السواء، وفوق كل ذلك، فإن القضية هي الأهم، تدعيم أركان الإيمان بالله وحده وبقدرته وقيوميته على كل شيء، ووقفة بسيطة أمام قصة موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام وابنتي نبي الله شعيب عليه السلام؛ تكشف عن المزيد من المعاني والدروس والحكم التي نحتاجها وبشدة في عصرنا الحديث .

يقول الله تعالى في سورة القصص: ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمةً من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير . فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لمآ أنزلت إلي من خير فقير .

والقصة واضحة ومشهورة وتحدث عنها المفسرون وشراح التاريخ والقصص والسير طويلاً، ولا يحتاج القارئ العادي أو غير المتخصص إلى مزيد عناء ليستوعبها ويدرك أبعادها وما وراءها .

أقوال المفسرين

جاء في تفسير ابن كثير: لما وصل إلى مدين وورد ماءها، وكان لها بئر يردها رعاء الشاء وجد عليه أمة من الناس يسقون أي جماعة يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان أي تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء؛ لئلا يؤذيا، فلما رآهما موسى عليه السلام رق لهما ورحمهما قال ما خطبكما؟ أي ما خبركما لا تردان مع هؤلاء؟ قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء أي لا يحصل لنا سقي إلا بعد فراغ هؤلاء وأبونا شيخ كبير أي فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى، قال الله تعالى: فسقى لهما .

وعن عمرو بن ميمون الأودي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين، وجد عليه أمة من الناس يسقون قال: فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان قال: ما خطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستق إلا ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم، (إسناد صحيح) .

وجاء في الدر المنثور عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج موسى عليه السلام خائفاً جائعاً ليس معه زاد حتى انتهى إلى ماء مدين وعليه أمة من الناس يسقون وامرأتان جالستان بشياههما، فسألهما ما خطبكما؟ قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، قال: فهل قربكما ماء؟ قالتا: لا إلا بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر قال: فانطلقا فأرياني إياها فانطلقتا معه فرفع الصخرة بيده فنحاها ثم استقى لهما سجلاً واحداً فسقى الغنم ثم أعاد الصخرة إلى مكانها ثم تولى إلى الظل فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير .

فسمعتا ما قال فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما فسألهما فأخبرتاه . . فقال لإحداهما: انطلقي فادعه، فأتته فقالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا، فمشت بين يديه فقال لها: امشي خلفي فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحل لي أن أنظر منك ما حرم الله علي، وأرشديني الطريق .

فلما جاءه وقص عليه القصص قالت إحداهما: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين . . قال لها أبوها: ما رأيت من قوته وأمانته؟

فأخبرته بالأمر الذي كان، قالت: أما قوته فإنه قلب الحجر وحده وكان لا يقلبه إلا النفر، وأما أمانته فإنه قال: امشي خلفي وأرشديني الطريق لأنني امرؤ من عنصر إبراهيم عليه السلام، لا يحل لي منك ما حرم الله تعالى .

حوار راقٍ

أرأيتم هذا الحوار الراقي والمحاججة العقلية، ومن أقصر الطرق بلا لف أو دوران، وهذه الصراحة بين الأب وابنتيه، والصدق في القول وديمقراطية الأب وتسليمه بالحجج والبراهين العقلية والمنطقية، وحرص الأب على اختبار صحة استنتاج البنت؟ وكيف اقتنعت بشهامة وصدق وقوة ورجولة وفحولة الرجل، حتى إنها طلبت من أبيها ألا يتركه، أن يستأجره أو يستعمله أو يقربه اكثر بأن يمد يده إليه ليرتبطا ويقترنا برباط مقدس، وهو ما تحتمله وتعنيه الآيات المباركة .

ولم يضيع الطرفان وقتاً، دخلا في الموضوع وتفاصيل المهر، ولم يرد الأب أن يعنت العريس أو يرهقه أو يكلفه ما لا يطيق، وعرض عليه خيارين أيهما يروق له ويختاره فإنه راضٍ به، وكم هو واضح بين في الآيات: قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين . قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل .

أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله قال لي جبريل: يا محمد إن سألك اليهود أي الأجلين قضى موسى؟ فقل أوفاهما، وإن سألوك أيهما تزوج؟ فقل الصغرى منهما .

وأخرج الخطيب في تاريخه عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال لي رسول الله: إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى؟ فقل خيرهما وأبرهما، وإذا سئلت أي المرأتين تزوج؟ فقل الصغرى منهما، وهي التي جاءت فقالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، فقال: ما رأيت من قوته؟ قالت: أخذ حجراً ثقيلاً فألقاه على البئر قال: وما الذي رأيت من أمانته؟ قالت: قال لي امشي خلفي ولا تمشي أمامي .

وأخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل رسول الله أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أبعدهما وأطيبهما، وفي رواية: أبرهما وأوفاهما .

قد استدل أصحاب الإمام أحمد، ومن تبعهم، على صحة استئجار الأجير بالطعمة والكسوة، بهذه الآية، واستأنسوا في ذلك بما رواه ابن ماجة في السنن (باب استئجار الأجير على طعام بطنه)، قال عتبة بن المنذر: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال: إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه .

دروس لمن يعتبر

والقصة مشحونة بالدروس والنظريات في فنون التعامل مع الحياة والناس، نظريات في الخطبة والزواج، في أدب المعاملات، في احترام وتقدير المرأة العاملة، وفي أمانة المرأة وشجاعتها وجديتها ودورها ومشاركتها في المجتمع حينما تحتاج إلى ذلك، في بر الوالدين واحترامهما وتوقيرهما رغم هرمهما، في المشورة والحوار الأسري، خاصة في الأمور المصيرية للأسرة والأبناء، في الثقة التامة والصدق والإخلاص والأريحية الأسرية . . في المتابعة والمراقبة لسلوك الأبناء، خاصة عندما يأتون في مواعيد مبكرة أو متأخرة بلا عنت أو صخب أو ضجيج أو فضيحة أمام الجيران .

إنها درس قوي في الشهامة والعزة والكبرياء وأهمية صنع المعروف في أهله والتأكيد دائماً على أن صانع المعروف لا بد منصور، وحتى إن وقع فسيجد له سنداً ونصيراً .

أدعو المهتمين بما يسمى حقوق الإنسان وقضايا المرأة وحقوقها ومحاربة التمييز ضدها؛ إلى دراسة قصة ابنتي شعيب وحكايتهما مع موسى عليه السلام . . عسى الله أن يفتح عليهم ويلهمهم عظة وعبرة بدلاً من العبرات التي يسكبونها ليل نهار بلا فائدة أو طائل، والتي ينافسون بها فقط دموع التماسيح .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/y787amsj

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"