يتفق محبو الأدب على أن «الحرب والسلام»، هي أعظم رواية تاريخية، إلا أن الخطوة الأولى نحو هذا النوع من الأدب جاءت في مطلع القرن التاسع عشر على يد الكاتب الاسكتلندي الكبير السير والتر سكوت. كان سكوت، المولود عام 1771، مزيجاً مُدهشاً من المؤرخ والفيلسوف والكاتب والشاعر، وصاحب إسهامات كبيرة في الأدب الاسكتلندي والعالمي.
تخرج في جامعة أدنبرة عام 1792، وبدأ حياته العملية مُحامياً، إلا أنه استطاع تدبير الوقت لقراءة الأعمال الكلاسيكية وكتابة الشعر، وفي السادسة والعشرين من عمره، بدأ ينشر قصائده ويحصل على قدر من المال أتاح له التفرغ للكتابة، وعكف على كتابة رواية «ويفرلي»؛ التي وصفها بأنها مُغامرته السردية، ونشرها عام 1814 تحت اسم مُستعار.
قرر سكوت أن يتناول في روايته الأولى فترة تاريخية مهمة وشديدة الخصوصية في تاريخ بلاده، على عكس السائد في ذلك الوقت من كتابة روايات تحكي التاريخ الشخصي لأبطالها. نجحت الرواية نجاحاً مُذهلًا في ذلك الوقت، ومنحت صاحبها شهرة لم يكن يتخيلها، حتى إنه أصبح يُعرف بمؤلف «ويفرلي»، وكان الناشر يشير إلى هذا في الدعاية لأي عمل جديد له بعد ذلك، وبالطبع استثمر سكوت نجاح الرواية وكتب عدة روايات أخرى على غرارها، ويشير النقاد إلى هذه الروايات باسم «روايات ويفرلي».
يكمن سر نجاح الرواية في أنها تناولت حدثاً تاريخياً حقيقياً وقع عام 1745، ويُعرف باسم «انتفاضة اليعاقبة»، وهي حركة سياسية وعسكرية كانت تهدف إلى إعادة تشارلز إدوارد ستيورات إلى عرش إنجلترا بعد خلعه. لجأ تشارلز إلى الأراضي المُرتفعة شمالي اسكتلندا، واتسع نفوذ الحركة، إلا أنها أثارت انشقاقاً واسعاً في صفوف الشعب الاسكتلندي بين مؤيد ومُعارض، وامتد الشقاق إلى داخل الأسرة الواحدة، ورغم هزيمة الحركة إلا أن صداها استمر سنوات طويلة، وأثر في الحياة السياسية في اسكتلندا.
بالطبع تشوق جمهور القراء لمُراجعة هذه الحقائق التاريخية في صورة درامية، خاصة أن الرواية صدرت في لحظة إحباط يمر بها الشعب الاسكتلندي، وبالتالي منحته قراءة الرواية نوعاً من الفخر الوطني.
بطل الرواية هو فارس شاب من أسرة أرستقراطية تعيش جنوبي إنجلترا، يُسمى إدوارد ويفرلي، تعرض الرواية في البداية لنشأة إدوارد في منزل العائلة وتأثره بعمه المُتعاطف مع اليعاقبة، على خلاف والده الذي ينتمي إلى حركة أكثر ليبرالية، ويشغل منصباً في الحكومة. ينضم إدوارد إلى الجيش الحكومي، ويتم إرساله في مُهمة إلى اسكتلندا أثناء انتفاضة اليعاقبة، في قلب المناطق التي تشهد التمرد، ولكن قبل وصول إدوارد إلى الشمال، يقوم بزيارة إلى البارون برادوردن، وهو ينتمي إلى اليعاقبة وصديق قديم لعمه، كما يتعرف كذلك إلى «روز» ابنة البارون الجميلة. يتعرض إدوارد بعدها لحيلة تؤدي به إلى المقر الجبلي لشيخ العشائر المُتمردة، فيرجاس، وشقيقته فلورا أثناء الاستعداد لشن إحدى الهجمات.
يتأخر إدوارد في العودة طويلًا فيتم اتهامه بالفرار من الجُندية وبالخيانة العُظمى، وتتمكن إحدى حملات الجيش من إلقاء القبض عليه، لكن المتمردين يتمكنون من تحريره وإخفائه في إحدى قلاعهم الحصينة، ثم يُنقل بعد ذلك إلى قصر الملك المخلوع تشارلز ويلتقيه. سرعان ما يقتنع إدوارد بأهداف اليعاقبة، وينتمي إليهم ويُشارك في معركة «بروستونبانز»، التي وقعت في سبتمبر 1745. يستغرق والتر سكوت في وصف المعركة وشرح التكتيكات الحربية في الأدغال والأحراش الوعرة، وأثناء المعركة يتدخل إدوارد ليُنقذ أحد قادة الجيش، الكولونيل تالبوت، من موت مُحقق.
يتعرض اليعاقبة لهزيمة ساحقة في مطلع العام التالي، ويتم إلقاء القبض على المتمردين. يتدخل الكولونيل تالبوت وينجح في الحصول على عفو عن إدوارد، وبعد إعدام صديقه فارجاس؛ زعيم العشائر، يتقدم للزواج من شقيقته الجميلة فلورا، لكنها تحتقره وترفض الزواج منه، فتنتهي الرواية بزواجه من روز ابنة البارون برادوردن.
ترمز فلورا إلى اسكتلندا الغاضبة المتحفزة الراغبة في التحرر، بينما ترمز روز إلى اسكتلندا الحديثة - في ذلك الوقت - التي تتسم بالهدوء ورجاحة العقل، مما يجعلها تقبل بالأمر الواقع وتُذعن للاتحاد مع إنجلترا، وهي فكرة راقت القراء الإنجليز، وأغلب قراء اسكتلندا الذين أصابهم الإحباط من كثرة الحروب وحركات التمرد سعياً للاستقلال، ويُظهر سكوت خوف الإنجليز والاسكتلنديين من شبح الحرب الأهلية وويلاتها.
كما تغازل الرواية الطبقات الراقية بالدعوة إلى بناء نظام اجتماعي قوي يقود عملية التحول السياسي بعيداً عن العصيان والتمرد، وفي الوقت ذاته تغازل الفلاحين والفقراء وتقدمهم كشخصيات تستحق التعاطف وتتسم بالكرم والذكاء؛ وبهذا تكون الرواية أرضت أغلب أطياف المُجتمع الاسكتلندي، وعبّرت عن رؤية سكوت التقدمية في ذلك الوقت، التي تأثرت بحركة التنوير الأوروبية، وسعت للاحتفاء بالإنسان دون تعصب ودون تمييز ناجم عن وضعه الاقتصادي أو الاجتماعي.
ومن المُلاحظ في هذه الرواية أن سكوت منح البطلتين مساحة كبيرة، ودوراً مؤثراً في سياق الأحداث، وإن بدت فلورا أقوى شخصية وتأثيراً من روز؛ فهي التي تمكنت من إقناع إدوارد بالانضمام إلى اليعاقبة، وشاركت بقوة في القتال وليس فقط التجهيز له، وكانت أكثر تحكماً في عواطفها لدرجة أنها رفضت الحب من أجل قيمة أكبر وهي الوطن. أظهر السرد كذلك أفكار ومشاعر البطلتين بطريقة أكبر من إدوارد نفسه، ومن الغريب أن روايات المغامرات والمعارك، التي ظهرت بعد ذلك، لم تمنح البطلات مثل هذه المساحة والتأثير.
نفدت الطبعة الأولى من الرواية، المكونة من ألف نسخة في يومين فقط، كما نفدت الطبعات الثلاث التالية في غضون شهر واحد. وبالطبع، استقبل النقاد الرواية بحفاوة وحماس بالغين، وأشاد بها أغلب نقاد، وكُتاب، القرن التاسع عشر؛ والغريب أن بعضهم اكتشف أن والتر سكوت هو المؤلف، ومن الطريف أن الروائية الشهيرة «جين أوستين» كتبت مقالًا تهاجم فيه سكوت، وتطالبه بأن يكتفي بما حقق من مجد في مجال الشعر، «وألا يخطف اللقمة من أفواه الروائيين» على حد قولها.
وقال جوته؛ أديب ألمانيا الأشهر، إن «ويفرلي» هي أعظم ما كتب سكوت، ولم يكتب بعدها ما يُضاهيها جمالًا وإبداعاً، وفي زيارته إلى اسكتلندا، طلب ملك إنجلترا تناول العشاء مع مؤلف رواية «ويفرلي»، وفي منتصف القرن العشرين، توقف الناقد الكبير جورج لوكاش عند الرواية ووصفها بأنها أول وأهم روية تاريخية. ورغم أن الرواية فقدت بريقها وكاد النسيان يطويها منذ منتصف القرن العشرين، فإنها صاحبة الفضل الأول في فتح الطريق أمام الروائيين للنبش في التاريخ وإعادة كتابته، كما وضعت كذلك الأُسس التي اتبعها أغلب من كتبوا الرواية التاريخية منذ ذلك الحين.