«مسبار الأمل» ورهانات المستقبل

04:34 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

ظلّ استكشاف الفضاء، وسبر أغواره، حلماً يراود البشرية على مرّ العصور، وبعد أن ظلت الأفكار المحيطة بهذا المجال مشوبة بالخيال والأساطير، سعى العرب في أوج حضارتهم إلى إرساء علم الفلك والرياضيات لمراقبة حركة النجوم، والكواكب، وتأمين الرحلات عبر الصحارى، والمحيطات، ما فتح المجال لبروز عدد من العلماء والفلاسفة الذين أغنوا الفكر والحضارة الإنسانيين باجتهاداتهم، وإنجازاتهم، في هذا الخصوص.
وفي الوقت الذي راهنت فيه العديد من الدول المتقدمة على البحث العلمي، بخاصة ذلك المتعلق بالفضاء، من حيث استكشاف الكواكب، والأجرام، والمجرّات، والبحث في أصول الكون وتطوراته، ورصد التحولات المناخية التي يمرّ بها كوكب الأرض، والتحديات والمخاطر التي تحيط بمكوّناته الطبيعية، من كوارث مختلفة، كالتصحّر والفيضانات والأعاصير وتضرّر الغابات وشح المياه، لم ينل هذا المجال الحيوي اهتماما كافياً داخل عدد من البلدان العربية، ما فوّت عليها فرصة اللحاق بركب البلدان الكبرى المتنافسة في الوقت الراهن على غزو الفضاء، والاستفادة من المكتسبات والمنجزات العلمية التي يتيحها هذا الحقل، على مستوى تعزيز التنمية في بعدها الاستراتيجي.
إن الاهتمام بهذا المجال هو استثمار فعلي للمستقبل، ولم يعد عالم اليوم، بتعقيداته وتحدياته الكبرى، يستوعب الدول التي تعيش الواقع، بقدر ما أصبح يفرض التسلح بالعلم والمعرفة لتغيير الواقع، وتسخيره بصورة تدعم التنمية وتحقيق الرفاه، وإدارة المخاطر والأزمات بقدر من الكفاءة والجاهزية، فالاستثمار في هذا العلم وما يتصل به من كفاءات بشرية، وبنيات تحتية، وأجهزة متطوّرة، لا ينبغي النظر إليه كترف أو مجرد إهدار للأموال، والإمكانات، بل كضرورة ملحّة تقتضيها المتغيرات الداخلية، والدولية.
إن ضعف اهتمام الكثير من الدول العربية بهذا المجال، لا يعني البتّة غياب كفاءات محلّية في هذا الخصوص، ذلك أن عدداً من المختبرات والوكالات العلمية الدولية الرائدة تزخر بكفاءات عربية، فضّلت الهجرة بحثاً عن فضاءات أرحب للاجتهاد والإبداع العلميين، ما جعلها تحقق مكتسبات وإنجازات علمية هامة أفادت بها الإنسانية جمعاء.
وحاولت بعض الدول العربية إيلاء قدر من الاهتمام للموضوع، حيث تمّ إحداث مراكز علمية تهتم بالأمر، كما تمّ إرسال مجموعة من الأقمار الصناعية لأغراض اتصالية، واستكشافية، وأمنية، وعلمية، وهو ما تجسده تجارب كل من دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة المغربية، والمملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، التي حققت مكتسبات مهمة، وراكمت تجارب واعدة في هذا الخصوص.
وفي هذا السياق، وضمن أول مهمّة عربية علمية نحو كوكب المريخ، تطلق دولة الإمارات العربية المتحدة «مسبار الأمل» من مركز «تانيجاشيما» الفضائي باليابان، لتسليط مزيد من الضوء على هذا الكوكب، وكشف أسراره.
وقد حظي «الكوكب الأحمر» باهتمام الكثير العلماء، رغبة في الكشف عن فرص وشروط ملائمة لحياة الإنسان هناك، وهكذا بدأت أولى المحاولات للوصول إليه في سنوات الستينات من القرن الماضي، لتتصاعد هذه التوجهات بشكل ملحوظ مع مرور الوقت، رغم فشل الكثير منها لأسباب مختلفة، سواء من قبل العلماء السوفييت، أو الأمريكيين، أو اليابانيين، والأوربيين.. ما مكّن من جمع صور ومعطيات علمية هامة في هذا السياق، أثرت حقول المعرفة والعلوم الإنسانيين، وعزّزت الرغبة في استكشاف المزيد من المعلومات حول الكوكب.
ويرتقب أن يصل «مسبار الأمل» إلى مدار المريخ في شهر فبراير/ شباط عام 2021، وهي الفترة التي تصادف الذكرى الخمسين لإنشاء دولة الإمارات، ما سيمكّنه من التقاط عدد من الصور الدقيقة لسطحه، ودراسة مكونات غلافه الجوّي، والتغيرات المناخية على سطحه، ورصد التطورات التي حدثت في هذا الخصوص، ضمن مهمّة علمية تستغرق أكثر من سنة، وتأتي هذه الخطوة التي يشرف عليها طاقم من الأطر الإماراتية الواعدة من باحثين ومهندسين، بالتعاون مع عدد من الكفاءات المتخصصة من مراكز دولية مختصة.
وتنطوي هذه الخطوة على أهمية كبرى، فهي بوابة تسمح باقتحام دولة الإمارات لمجال حيوي يدعم مكانتها كمساهم في تعزيز وإغناء الأبحاث العلمية الدولية في هذا الصدد، سيمكنها من تطوير كفاءاتها البشرية، وبنياتها العلمية على طريق إرساء صناعة متطورة في هذا المجال، كما أنها مبادرة ستسهم حتماً في تصحيح الصورة النمطية عن العرب، والمسلمين، في الغرب، والتي غالباً ما تربطهم بالتطرّف، والإرهاب، والحروب، وتبنّي الأفكار الخرافية، وفي تحفيز عدد من دول المنطقة على نهج مثل هذه الخيارات الاستراتيجية.
وبعيداً عن أخبار الحروب، والنزاعات والصراعات الطائفية، والأزمات الاقتصادية، والاجتماعية التي أصبحت تطبع جزءاً كبيراً من المنطقة العربية، يمثّل هذا الإنجاز بارقة أمل، تؤكد أن الدول العربية، وبالرغم من الأزمات التي توجهها، بإمكانها أن تحقّق خطوات علمية متميزة، من خلال الاستثمار في البحث العلمي والمراهنة على مخرجاته في تحقيق التنمية، لزرع الثقة في أوساط الأجيال الراهنة، والمقبلة، والاستئثار بمكانة محترمة بين الأمم في عالم اليوم.
إن كسب رهانات الاستثمار في مجال تقنيات وعلوم الفضاء، يقتضي بلورة رؤى استراتيجية، تثق بالكفاءات الوطنية، وقدراتها، وتراهن على تطوير منظومة التعليم والبحث العلمي، كبوابة فسيحة لاقتحام عالم المستقبل، بكل فرصه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"