قراءة في تراجع قيمة الدولار

02:29 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمد العريان
محمد العريان
أدى انخفاض بنسبة 10% تقريباً في قيمة الدولار الأمريكي قياساً على أعلى مستوى له في مارس/آذار، إلى ظهور روايتين متميزتين. الأولى تعتمد منظوراً قصير الأجل، مع التركيز على منعكسات الانخفاض على الاقتصاد والأسواق الأمريكية، بينما تعتمد الثانية منظوراً طويل الأجل، وتركز على مخاوف الوضع الهش للدولار كعملة احتياطية في العالم. وعلى الرغم من أن الروايتين تستندان إلى بعض الحقائق؛ لكنهما ليستا كافيتين لتحقيق الإجماع حولهما.
يحمل التاريخ بدءاً من العقد الضائع في أمريكا اللاتينية في الثمانينات إلى الأزمة اليونانية الأخيرة، الكثير من الذكريات المؤلمة حول عجز الدول عن خدمة ديونها. ومن المرجح أن تدفع أزمة الديون العالمية اليوم الملايين إلى أحضان البطالة، وتغذي عدم الاستقرار والعنف في جميع أنحاء العالم.
وقد تضافرت عدة عوامل لممارسة ضغوط على الدولار في الأسابيع الأخيرة؛ ما أسفر عن فقدانه ما يقرب من نصف مكاسبه التي حققها على مدى السنوات العشر الماضية في مساحة زمنية لا تزيد على بضعة أشهر.
ونظراً لاعتماد مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سياسة نقدية مرنة؛ لمواجهة تدهور الاقتصاد؛ فقد انخفض الدخل التراكمي لأصول الملاذات الآمنة المقومة بالدولار، مثل: سندات الخزانة الأمريكية. ومع فقدان الاستثمارات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها بعض جاذبيتها النسبية، كان هناك تحول في الحيازات لمصلحة الأسواق الناشئة وأوروبا؛ حيث وافق الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي على خطة دعم وتكامل مالي أعمق.
وهناك أيضاً مؤشرات على انخفاض تدفقات رأس المال إلى الولايات المتحدة. ويبدو أن شراء المنازل من قبل الأجانب قد انخفض مرة أخرى، ويرجع ذلك جزئياً إلى تبني حكومة الولايات المتحدة للسياسات التي تدعم الوضع الداخلي، وما يتصل بذلك من التشدد في العلاقات التجارية وقرارات العقوبات.
وباستثناء لبنان وتركيا وعدد قليل من البلدان الأخرى التي شهدت انخفاضاً حاداً في سعر الصرف مقارنة بالولايات المتحدة؛ فقد تعززت قيم معظم العملات مقابل الدولار؛ لكن ردود الفعل على هذه الظاهرة لدى الدول التي تصنف عملاتها «مرتفعة»، لم تكن موحدة.
فقد رحبت بعض البلدان، ولا سيما في العالم النامي بتراجع قيمة الدولار؛ لأن ضعف عملتها السابق، كان يسهم في ارتفاع أسعار الواردات، بما في ذلك أسعار المواد الغذائية. علاوة على ذلك، فإن ضعف الدولار؛ يوفر لها مجالاً أكبر؛ لدعم الأنشطة الاقتصادية المحلية؛ من خلال تدابير مالية ونقدية أكثر تحفيزاً.
لكن رد الفعل كان أقل ترحيباً في الاقتصادات المتقدمة الأخرى. وتخشى اليابان والدول الأعضاء في منطقة اليورو، على وجه الخصوص، من أن ارتفاع قيمة عملاتها؛ قد يهدد تعافيها الاقتصادي من صدمة وباء كوفيد-19. ويجد كل من بنك اليابان والبنك المركزي الأوروبي نفسه في حالة حذر حيال آفاق فاعلية سياسة كل منهما، خاصة تزايد احتمالات تعريض اقتصاداتهما لخطر الأضرار الجانبية، والعواقب غير المقصودة.
أما في الولايات المتحدة فقد كان انخفاض قيمة الدولار موضع ترحيب؛ باعتباره تطوراً إيجابياً للاقتصاد، على الأقل على المدى القصير. فأدبيات الاقتصاد تقول إن ضعف الدولار؛ يعزز القدرة التنافسية الدولية والمحلية للمنتجين الأمريكيين في مواجهة المنافسين الأجانب، ويجعل البلاد أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب والسياح، ويزيد القيمة الدولارية للإيرادات التي تحققها الشركات الأمريكية في الخارج. وهذه فوائد مؤكدة تنعكس أيضاً على أسواق الأسهم وسندات الشركات الأمريكية، التي تستفيد من انتعاش جاذبية الأوراق المالية المقومة بالدولار عند تسعيرها بعملة أجنبية.
لكن على المدى البعيد يشكل تراجع قيمة الدولار انتكاسة للولايات المتحدة؛ وذلك لأن المخاوف المرتبطة بانخفاض قيمة الدولار؛ سوف تزيد من تآكل مكانته العالمية، والتي تراجعت عملياً؛ بسبب السياسات الأمريكية في السنوات الثلاث الماضية - بدءاً من الحمائية التجارية وفرض العقوبات، وصولاً إلى تجاوز المعايير العالمية وسيادة القانون بشكل متزايد.
وكلما تآكلت مصداقية الدولار، زادت مخاطر فقدان الولايات المتحدة خاصية «الامتياز الذهبي» الذي تحظى به؛ من جرّاء إصدار العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم. مثل هذا الامتياز؛ يتيح لصاحبه تبادل قصاصات ورق يطبعها بنفسه بالسلع والخدمات التي تنتجها البلدان الأخرى. كما يمنحه قوة تأثير إضافية على القرارات الحساسة في العلاقة مع الأطراف المهمة، والاستفادة من رغبة الآخرين في الاستعانة بمصادر خارجية؛ لإدارة ثرواتهم المالية من خلال مؤسساته الخاصة.
الروايتان صحيحتان نسبيا؛ لجهة مزيد من التراجع في قيمة الدولار. وفي الوقت الذي تكون آثار التراجع إيجابية من الناحية النظرية، فمن المرجح أن يكون الجانب العملي مختلفاً؛ لأن الكثير من أوجه النشاط الاقتصادي يضعف حالياً؛ بسبب القيود الحكومية؛ وإحجام الأفراد والشركات عن العودة إلى أنماط الاستهلاك والإنتاج السابقة. فأكثر من نصف الفعاليات في الولايات الأمريكية متوقفة الآن أو أوقفت عملية إعادة الانفتاح الاقتصادي.
إضافة إلى ذلك، تتطلب الآثار الإيجابية للسوق اليوم مزيداً من التأهيل بعد الأزمة الصحية. فقد انفصلت التقييمات أو معظمها عن الواقع وعن أساسيات الاقتصاد وواقع الشركات؛ بسبب فيض السيولة والثقة بتوفرها بيسر. في ظل هذه الظروف المالية، يصعب تصور تأثير أكثر من هامشي لانخفاض قيمة الدولار على الأداء الاقتصادي الحقيقي.
أما بالنسبة لدور الدولار كعملة احتياطية، فلا توجد عملة أخرى يمكنها أن تحل محل الدولار في الوقت الراهن على الأقل. والمرجح أن تنافس الدولار بدائل غير مستقرة وصغيرة الحجم، ما يسفر عن نظام نقدي عالمي أكثر بعثرة.
والخلاصة أن ضعف الدولار اليوم ليس نعمة للأسواق ولاقتصاد الولايات المتحدة، ولا هو نذير تراجع لدوره على المسرح العالمي؛ لكنه قد يمثل حالة من التفتيت التدريجي للنظام الاقتصادي العالمي. ويبقى العامل الحاسم في هذه العملية؛ هو الافتقار المخيف إلى تنسيق السياسات الدولية في وقت تتزايد فيه التحديات. (بروجيكت سينديكيت)
 
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

خبير اقتصادي وكبير المستشارين الاقتصاديين لشركة أليانز Allianz

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"