الإسلام السياسي في فرنسا

03:19 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

التيار السلفي المتشدد يمثل العدو الجديد لفرنسا نتيجة لصلاته الفكرية بتنظيم القاعدة و«داعش» والجماعات المسلحة في إفريقيا.

عرف حضور الإسلام في أوروبا الغربية، بخاصة في فرنسا، تطوراً لافتاً منذ الخمسينات، والستينات، من القرن الماضي، حيث تزايدت أعداد المهاجرين المسلمين القادمين من دول المغرب العربي بشكل تدريجي، بخاصة بعد إصدار فرنسا قانون التجمع العائلي الذي سمح للعمال المسلمين باستقدام عائلاتهم من بلدانهم الأصلية، ما ساعد على خلق تجمعات سكانية كبرى خاصة بالمهاجرين في ضواحي العاصمة، والمدن الصناعية الرئيسية، ونجمت عن ذلك مشاكل كبرى تتعلق بصعوبة إدماج الجالية المسلمة داخل النسيج المجتمعي الفرنسي.

وقد أخذت هذه الصعوبة أبعاداً سياسية مقلقة مع انتشار نفوذ اليمين المتطرف المعادي للأجانب من جهة، ومع تطور حركات الإسلام السياسي في دول المغرب العربي لاسيما في الجزائر في التسعينات من القرن الماضي، والتي كان لها دور مؤثر في نشأة نموذج فرنسي للإسلام السياسي، انعزالي ومتشدّد، يرفض التعامل مع القوانين الجمهورية للدولة الفرنسية، ويعمل على إقامة أحياء شبه مستقلة تجد الشرطة الفرنسية صعوبة بالغة في التحكم فيها، من جهة أخرى.

ويختلف الإسلام السياسي الذي ينشط حالياً في فرنسا عن الإسلام السياسي في بريطانيا، وهو اختلاف يعود إلى طبيعة التركيبة السكانية للمهاجرين المسلمين في هاتين الدولتين، حيث نقلت الجاليات المسلمة القادمة من شبه الجزيرة الهندية ودول شرق آسيا والمشرق العربي، ولاسيما من مصر، تقاليدها ومشاكلها السياسية من دولها إلى المملكة المتحدة؛ وبالتالي فإنه، وبالرغم من انقسام الإسلام الحركي بين تيارين رئيسيين هما التيار الإخواني والتيار السلفي، إلا أن التيار الإخواني يظل هو المهين، ويحظى بدعم غير مباشر من السلطات البريطانية لأسباب تاريخية تتعلق بظروف تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين» في مرحلة الانتداب البريطاني في مصر.

أما الإسلام السياسي في فرنسا، فيبدو أنه متأثر بشكل أكبر بالمرجعية المغاربية ،وبخاصة بالنموذج الجزائري الذي هيمنت عليه «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» المحظورة، والتي كانت مرجعيتها عبارة عن خليط من اجتهادات قيادات الإخوان في سوريا، وفقهاء السلفية الجهادية، ومستقلة نسبياً عن تأثيرات المدرسة الأم لحركة الإخوان في مصر. وتعود أسباب تطور ظاهرة الإسلام السياسي في فرنسا بهذا الشكل المقلق إلى التساهل الذي أبدته باريس تجاه نشاطات الجمعيات السلفية التي ساعدت الحكومة في بداية الأمر على التحكم في معدلات انتشار الجريمة وتجارة المخدرات في أحياء المهاجرين، وهي جمعيات كانت تدعو أتباعها إلى الاشتغال في الأعمال الحرة، وتجنب العمل في مؤسسات وشركات الدولة الفرنسية التي ترمز إلى ما يسمى «بالطاغوت»، الأمر الذي ساعد الحكومات الفرنسية المتعاقبة على تقديم أرقام بطالة أسقطت من حسابها أعداداً معتبرة من شباب الضواحي؛ وعندما تفطنت السلطات الفرنسية إلى خطورة الظاهرة تبيّن لها أن الإسلام الحركي في المدن الفرنسية بات خارج السيطرة، وأضحى قريباً من التنظيمات المتطرفة.

ويشير المؤرخ الفرنسي بيير كونيسا إلى أن التيار السلفي المتشدد يمثل العدو الجديد لفرنسا نتيجة لصلاته الفكرية بتنظيم القاعدة، و«داعش»، والجماعات المسلحة في إفريقيا، ويؤكد في هذا السياق ضرورة الالتفات إلى بعض البديهيات المتعلقة بالجوانب الاستراتيجية في الحرب على الإرهاب والتي تؤكد أن الاستراتيجيات الجديدة يضعها المنهزم، وليس المنتصر، ومن ثمة فإن الهزائم التي تتكبدها الجماعات الإرهابية يدفعها إلى وضع استراتييجيات جديدة ومبتكرة كما يحدث الآن مع تنظيم «داعش».

ويمكن القول إنه إذا كان تزايد قوة وانتشار الإسلام السياسي في فرنسا يعود في قسم منه إلى اضطراب الأوضاع السياسية والمجتمعية في البلدان الأصلية للمهاجرين، فإن السلطات الرسمية الفرنسية تتحمّل مسؤولية كبيرة في انعزال المهاجرين في أحياء فقيرة تنتشر فيها البطالة والجريمة، ويعاني سكانها أزمة هوية ثقافية كبرى.

كما نستطيع التأكيد في السياق نفسه، أن إصرار اليمين الفرنسي المتطرف، على تحميل المهاجرين المسلمين تبعات المشاكل الأمنية ولتداعيات إخفاق السلطات الفرنسية في تحقيق تنمية مستدامة في أحياء الضواحي؛ يضاعف من المشاكل المرتبطة بالهوية الدينية، ويدفع قسماً معتبراً من الشباب الفرنسي المسلم إلى تبني أطروحات الإسلام السياسي الذي يريد في أحايين كثيرة أن يحقق في أوروبا ما عجز عن تحقيقه في الدول العربية والإسلامية، بخاصة أنه وعوض أن يحرص على الترويج في بلدانه الحالية لنموذج إسلام أوروبي منفتح، فإنه يسعى إلى الاستفادة من هامش الحرية في أوروبا ليفرض تصوراته المتشددة المتعلقة بطبيعة مشروع الدولة والمجتمع داخل دوله الأصلية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"