أين يقع لبنان اليوم؟

03:46 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. نسيم الخوري

أحلام تتجدّد حول البحيرة لكنّ العبر القصوى كلّها مقيمة في رائحة النفط والغاز

تفرض الحياة الأكاديمية التهيّب الكامل والبطيء في دراسة الأحداث قبل تحويلها إلى نسبٍ وأرقام وجداول شديدة الأهميّة والمسؤوليّة. تعود تلك الأهميّة، خلافاً للخطب والتصريحات السياسيّة المحكومة غالباً بالعجلة أو بالموت، ليس لأنّ الأرقام ملازمة للفكر منذ يقظاتها التاريخية الهندية والإغريقية والإسلامية والغربيّة بشكلٍ عام، ولا لأنّ دمغة الكون اليوم التي يحلّق بها الإنسان الكاشف لتفاصيل الوجود وتدفق المخترعات هي اللوغارتميّة نسبةً إلى الخوارزمي، بل لأنّ تلك الأرقام هي الأسس المتينة لوضع الاستراتيجيات والقرارات وتنفيذها، وخصوصاً وأننا عند نشرها وتعميمها على المسؤولين ومراكز الدراسات وفي وسائل الإعلام تصبح ذات مسؤولية هائلة على أوطانها وأصحابها.

أكتب هذا، بالعربيّة الفصحى، لا للنقد أو الحطّ من قيمة الدارسين والأكاديميين الكُثر الذين أغرقوا الشاشات، بقدر ما ألفت إلى ظاهرة مخيفة، في المجال، قد نصادفها في الدول الكبرى أو ما يعرف بالمؤسسات والمنظمات والبنى الدولية وفق نسبٍ متّفق عليها عالميّاً.

مثال بسيط هنا هو أنّ تقدير نسبة الخسائر المتعارف عليها في الميزانيات التجارية يجب ألاّ تتعدّى ال5 في المئة عند مراحل التأسيس التي لا تتعدّى السنوات الثلاث القاعدية للسماح بالحكم على نجاح المؤسسة أو فشلها وليصبح الأمر قابلاً عندها للتجديد سنوات ثلاثٍ أخرى، بينما تقدير الأرباح خاضع لسلالم ونسبٍ متعدّدة لها علاقة بالأنظمة المرعية للدول وللمؤسسات.

وأكتب هذا لأنّ لبنان الحبيب، صار مقصداً لرؤساء وموفدي دول الأرض ومؤسّساتها كما للمنظّمات الدولية المشكوك أحياناً بصدقيتها ومراميها عطفاً على تجاربها في الدول الأخرى، إلى درجةٍ بات من المعقول جدّاً السؤال اليوم: أين يقع لبنان اليوم؟

ها أنا قد عثرت على عنوان المقال. فعلاً أسأل بكلّ اللغات: أين يقع لبنان، بكلّ المعاني والتوقّعات؟

أتابع التدقيق المرّ في ظاهرة دلق الأرقام والنسب عندنا بشكلٍ سريع ومرتجل ونفعي في أغلب الأحيان. تلك ظاهرة مرّة جدّاً ترمينا في المتاهة الكبرى لأسبابٍ متعدّدة، أوّلها التسرّع في وضع الدراسات، وثانيها توظيف الخبراء الاقتصاديين والماليين والنقديين الذين لا يحصون ولا تدقيق بأرقامهم ونسبهم ومقترحاتهم المتناقضة والمتباعدة وثالثها، وهو الأخطر والأهم، أنّ العديد من هؤلاء أو المدّعين صفة الخبراء والمستشارين سرعان ما نجدهم كسّابين في شقوق الانقسامات السياسية والطائفية التي أصابت لبنان وأرهقته.

ببساطة، يعيش اللبنانيون ضياعاً يعود إلى ما يمكن أن أسمّيه: استبدادية الأرقام والنسب والتقديرات.

لماذا؟ لأنّنا بدءاً من الانهيارات الاقتصادية والمالية والنقدية المتسارعة، مروراً بتداعيات جرثومة الكورونا بإصاباتها المتصاعدة، وصولاً إلى المشاهد المؤلمة والمسؤوليات الكارثيّة التي خلّفها انفجار أو زلزال مرفأ بيروت، كانت الأرقام والنسب والتقديرات السريعة والمرتجلة التي يطلقها العديد من «الخبراء» في معظم المجالات أحياناً، تترك حيرةً ورعباً جعلت اللبنانيين والمؤسسات الدولية أسيرة التشتّت والخوف والشكوك من تفاقم العجز في القبض على الحقائق كما هي، ومعرفة دقائق المستقبل. حصل هذا كلّه، خصوصاً بعد انشغال حكومة الدكتور حسّان دياب المستقيلة لتصريف الأعمال، وانفجار المرفأ الذي حوّل لبنان إلى ساحة عطفٍ، بل تسابق لا بل ساحة صراع إقليمية ودوليّة، وصولاً إلى الغرق في الحكومة غير المنتظرة «المستوردة» وأضعها بين قوسين بالطبع، احتراماً للداخل والخارج متداخلين ومنقسمين ومتشبّثين بمفاتيح الفساد والإفساد وكسرهما، لتصبح الحياة لا السياسية وحسب، بل العادية مستعصية بل مستحيلة. إحدى مصائب الحكومة الجديدة ظهورها وكأنّها «الحكومة السريّة» أو الصامتة في بلدٍ لا أرصدة فيه سوى الكلام والنفخ والتحريض والتحريض المضاد والتهديد والوعيد.

ليس مطلوباً ومنتظراً سوى ترميم الثقة المدمّرة بالوطن! ماذا يحصل الآن؟

الجميع في لبنان وخارجه ينظرون بعيون من القلق العارم نحو التغيير عبر التفجير.

أمّا المشهد الظاهر المثلّث الأضلاع، فيبين واضحاً وغامضاً في ضلعه الأوّل وأكثر وضوحاً واستفزازاً في الانقسام العربي واللبناني حول الحضور الفرنسي ويقابله الحضور التركي في ضلع المشهد الثاني وجاءت المفاجأة في ضلعه الثالث الفلسطيني بزيارة عبّاس هنيّة المدجّجة. يمكن اختصار الضلعين الفرنسي التركي بالتسابق والتنافس والمغامرات بين لبنان واليونان وقبرص بضلعيها اليوناني والتركي وليبيا ومصر بالطبع. ترسو حاملة الطائرات «شارل ديجول» في البحر الأبيض المتوسّط فيسمّي أردوغان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «بونابرت الجديد»، لتلصق به تسميةً فضفاضة هي«عبد الحميد أردوغان». أحلام تتجدّد حول البحيرة لكنّ العبر القصوى كلّها مقيمة في رائحة النفط والغاز.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"