مسيرة من التأثر

03:05 صباحا
قراءة 4 دقائق

علاء الدين محمود

الإبداع الذي يسكبه الأديب من شاعر وقاصّ وروائي وغيره، لم يأت من فراغ، بل تشكل من خلال اطّلاع على أدب من سبقوه، ومن ثقافات تنتمي لحضارات أخرى مختلفة، وذلك ما يسمى بالمثاقفة، وفي الفلسفة هنالك تعبير «المجرى»؛ أي ذلك الدفق للمعارف من مختلف الحضارات، منذ التاريخ وحتى اللحظة، بحيث أن كل فيلسوف إنما هو امتداد لمن سبقه، اطّلع على منجزه ثم اتخذ موقفاً منه إما بالاتفاق، أو القطع معه، وفي الحالتين نشأ نوع من الحوار وتبادل الأفكار عبر القراءة المتمعنة المستجلية، وكذا الحال بالنسبة للإبداع، فهو مسيرة من التأثر، ففي مسيرة الأديب الكثير من القصص التي تشير إلى تأثره بثقافات مختلفة شكلت رؤاه الأدبية، بل وأدواته وأسلوبه الإبداعي، بحيث إذا فككنا المنتج الأدبي للكاتب المعين، نجده ينتمي إلى عدد من القراءات والثقافات التي شكلته إبداعياً.

وكثيراً ما يتعرض مفهوم المثاقفة لسوء التأويل، لكونه يفسر بأنه يبحث في العلاقة بين ثقافة مهيمنة وأخرى تابعة، لذلك جاءت تعابير تفسر المفهوم أقل حدة مثل المبادلة والتأثر، وهنا ينفتح أمامنا سؤال في غاية الأهمية، وهو: هل كان العرب على سبيل المثال، أو الشرق بصورة عامة في علاقة أحادية الجانب؟ بمعنى هل تأثر العرب دون أن يؤثروا في الغرب مثلاً؟، بالطبع الإجابة هي أن التاريخ يشير إلى تأثير الثقافة العربية في الغرب، حيث أثارت فضول الكثير من الكتاب الغربيين، خاصة لتميزها بسيادة الميثولوجيات والغرائبيات، بل وأثر الكثير من الأدباء العرب في أدباء وشعراء غربيين مثل المعري والمتنبي وغيرهم، بل وحتى أدباء معاصرين مثل طه حسين ونجيب محفوظ والطيب صالح، بل إن واحدة من أهم الأعمال الروائية في السرد الغربي، وهي «روبنسون كروزو»، لدانييل ديفو «1719»، قد جاءت متأثرة بواحدة من الأعمال العربية الخالدة وهي كتاب «حي بن يقظان».

أسهمت الترجمات، وما يسمى بالاستشراق، بصورة كبيرة في انتقال الأدب العربي إلى الغرب، حتى صار معروفاً خاصة على مستوى الشعر، إلى حد أن كثيراً من الأدباء الغربيين وجدوا فيه مواضيع وأسلوبيات وتعبيرات مختلفة وشديدة الجمال، حتى إن الأديب الفرنسي «آر بلانشير»، والذي عرف باهتمامه بالثقافة العربية، قد وصف الشعر العربي ب«بستان سري»، ويقصد أن صعوبة اللغة العربية تحول دون الولوج إلى ذلك الكنز غير المكتشف غربياً، وقد بذل الكثير من الغربيين جهداً في نقل الدرر الأدبية العربية إلى الغرب، على نحو ما فعل البريطاني وليام جونسون «1736 1794»، حيث عمل على نقل وترجمة الشعر العربي إلى الإنجليزية من أجل أن يستمتع به القارئ البريطاني، بل وقد قام بترجمة المعلقات العربية الشهيرة، وهنالك الكثير من الأعمال التي صار يعرفها الغربيون مثل «ألف ليلة وليلة»، و«كليلة ودمنة».

لذلك من المستحيل أن تسير عملية المثاقفة في اتجاه واحد، بل هي نوع وشكل من أشكال التبادل الأدبي والمعرفي، لكن بطبيعة الحال فإن «الثقافة السائدة»، لها تأثيرها الأكبر، مثل ثقافة الغرب، ولأنها مهيمنة، يقبل عليها الأدباء من مختلف أنحاء العالم، فيتأثرون بها، لذلك تأثر الكتاب والأدباء العرب كثيرا بالثقافة الغربية، خاصة في العصر الحديث، وقد كان لها الأثر الحاسم في اتجاهات كثير من الأدباء والشعراء العرب، وربما كثيراً ما يشير النقاد إلى الأديب الكبير طه حسين، وتأثره بالغرب خاصة فرنسا، وعوالم عاصمتها باريس، وهو تأثر إيجابي إلى حد كبير، فقد شكلت قيم الحرية والمدنية عوامل جذب عند طه حسين، فأثرت في مجمل أدبه وكتاباته النقدية، وكذلك فعل كتاب المهجر مثل جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة، فهؤلاء تأثروا بصورة كبيرة وحاسمة لأنهم قد عاشوا في الغرب، ولمسوا جوانب الحضارة الغربية، ولكن التأثير لم يكن فقط على الذين ذهبوا إلى الغرب بفعل الهجرات والدراسة، بل وكذلك على من كانوا موجودين في بلدانهم في العالم العربي بفضل الترجمات التي عرفتهم على فطاحلة الأدب الغربي.

إلى جانب الترجمات، خاصة الحديثة، فإن التطور الكبير في الميديا ووسائل التواصل، فتح للأدباء العرب نافذة على مناهل جديدة قديمة، هي قديمة على مستوى وجودها التاريخي والحضاري، ولكنها جديدة على مستوى التأثير الكبير، ونشير هنا إلى بعض الثقافات والحضارات الآسيوية خاصة في الهند واليابان والصين، فقد تأثر الأدب العربي كثيراً بثقافة الزن، والهايكو على مستوى الشعر، وكذلك القصة القصيرة جداً، أو القصة الومضة، بل صار الشباب العرب، في سياق التجريب، مولع بالكتابة على بعض الأساليب الآسيوية مثل «الماندالا»، المستوحاة من الحضارة الهندية، كما اتجهت أنظار الكتاب والأدباء العرب الشباب بقوة نحو الأدب الإفريقي، خاصة على مستوى السرد، مع ظهور أدباء كبار على مستوى القارة الإفريقية جنوب الصحراء مثل: بن أوكري، وتشينوا اتشيبي، و نغوغي وا ثيونغو، وغيرهم ممن تأثر بهم العرب بفعل المثاقفة واكتشاف الآخر والتأثر به.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"