الثقافة والقوة الأوروبية الناعمة

03:32 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

يرى كثير من المتابعين أن أوروبا على الرغم من التحديات الاقتصادية التي تمر بها، والمشاكل الجيوسياسية المتعلقة بالتنافس الدولي بين الولايات المتحدة من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، إضافة إلى الصعوبات الذي تعرفها مفاوضات البركسيت تمتلك مقومات قوة ناعمة ليست متوفرة في مناطق أخرى من العالم، خاصة على المستوى الثقافي؛ الأمر الذي يجعل الاتحاد الأوروبي يشعر بحاجة ماسة إلى تفعيل وإبراز مقدرات قوته الثقافية والفكرية التي استطاعت أن تضع اللبنات الأساسية للحضارة الإنسانية المعاصرة على جميع المستويات، وذلك وفق آليات يمكنها أن تسمح لأوروبا بتحويل قوتها الثقافية إلى فضاء سياسي جديد في سياق معادلة توازن القوى على المستوى الدولي.

وقد سبق في هذا السياق لكثير من الشخصيات الأوروبية الفاعلة أن أبرزت أهمية الاعتماد على القوة الثقافية التي ترمز إلى سلطة الأفكار والمعرفة والإبداع، حيث كتب روبير شومان يقول : «إن أوروبا قبل أن تكون حلفاً عسكرياً أو كياناً اقتصادياً، يتوجب أن تكون مجموعة ثقافية بالمعنى الأكثر رفعة لهذه الكلمة». والشيء نفسه أكده أيضاً تصريح روما بتاريخ 25 مارس/آذار 2017، الذي أشار إلى الميراث المشترك لأوروبا، وإلى التنوع الفكري للقارة، كما دعا إلى ضرورة تعزيز التطوير الثقافي للمواطن الأوروبي، لأن الثقافة هي مفتاح التحرر والتقدم وهي التي تلعب دوراً حاسماً في ترسيخ وحدة الأمم؛ لذلك فمن الضروري بحسب بيير بوهلر، أن يتجاوز الاهتمام بالثقافة، مجال اختصاص الدول القومية في القارة ليتحوّل إلى رهان أساسي للاتحاد الأوروبي يضاهي في أهميته الجانبين الاقتصادي والسياسي.

ونستطيع التأكيد في هذا السياق، أنه على الرغم من التقدم الهائل الذي حققته دول كبرى مثل الولايات المتحدة والصين في المجالين الاقتصادي والتقني، فإن أوروبا تظل تمثل بالنسبة للرأي العام العالمي رمزاً للتميز الثقافي والعلمي والصناعي، فعندما يجري الحديث عن الجدية والجودة في التصنيع، تتم الإشارة دون تردد إلى المنتجات الألمانية، وعندما يتمحور النقاش حول الموضة والأناقة والإبداع في مجال الخياطة والعطور وصناعة السياحة، تقفز إلى الأذهان أسماء دول مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، كما يرتبط اسم هولندا بجودة المنتجات الزراعية، واسم سويسرا بصناعات الساعات والمصارف المالية وصناعة الشوكولاتة. ومن ثَم فإن أوروبا هي مرجع للعلامات والماركات المسجلة الأكثر انتشاراً وشعبية في العالم.

وهناك في المقابل سعي أوروبي حثيث لكسر الهيمنة الأمريكية في مجال الصناعة السينمائية، حيث يعمل الاتحاد الأوروبي على تشجيع مختلف المبادرات الهادفة إلى تطوير الكفاءات الإبداعية في هذا المجال.

ومن الواضح أن الدول الأوروبية لم تنتظر توجيهات بروكسل من أجل المراهنة على مقومات القوة الثقافية الناعمة، فقد كانت فرنسا سباقة في سعيها إلى التأثير في العقول والقلوب من خلال فكرها وإنتاجها الثقافي منذ عقود خلت، وعملت على فتح أكثر من 98 معهداً ثقافياً فرنسياً عبر العالم، و840 تحالفاً ثقافياً يقوم بتنظيم 30 ألف تظاهرة ثقافية في السنة، والشيء نفسه ما زالت تحرص ألمانيا على القيام به من خلال النشاطات الثقافية التي تنظمها معاهد جوتة التي يتجاوز عددها 160 مؤسسة عبر 100 دولة.

بيد أن هذه الجهود وعلى الرغم من أهميتها البالغة في نشر ثقافة الدول الأوروبية، فإنها بحاجة إلى توحيد برامج الدول الأوروبية الهادفة إلى نشر القيم الثقافية المشتركة لأوروبا التي تحدث عنها مفكرون من ألمانيا وفرنسا، في سياق ما سُمي بالوعي الأوروبي الذي يمثل العنصر الفكري المؤسِّس للهوية والثقافة الأوروبية، وذلك من خلال تجاوز الاختلافات اللغوية وتحويلها من عنصر تنافس إلى أداة لترسيخ التنوع والثراء الثقافي القادر على تجاوز الأحادية اللغوية التي تعمل على فرضها اللغة الإنجليزية.

ويمكن القول في الأخير، إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وسعيها للعودة إلى الحضن الأمريكي، يجعل القوة الثقافية الناعمة لأوروبا تتحوّل إلى خيار استراتيجي لا يمكن إغفاله، من أجل فرض معادلة جيوسياسية جديدة تُسهم في إفشال المحاولات الرامية إلى تحويل أوروبا إلى ميدان للصراع بين الصين وأمريكا، في مرحلة يُنتظر فيها أن تكون أوروبا قاطرة للتقدم الحضاري والفكري.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"