التقدم في ميزان البحث والديمقراطية

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

منذ أكثر من قرن وسؤال التقدم يحوز مكانة مرموقة في أجندة كثير من المفكرين العرب، أما الإجابات فقد تنوعت بتنوع المجالات التي يطالها مفهوم التقدم، من اجتماع واقتصاد وسياسة وعلم وفكر، وغيرها كثير من المجالات التي تتشابك مع المجالات السابقة بشكل أو بآخر، كما خضع مفهوم التقدم في مساره العربي إلى الأيديولوجيات التي سادت في مراحل متعددة، فهو كغيره من المفاهيم لا يمكن أن يكون مستقلاً بذاته؛ بل مرتبط بمرجعيات فكرية/ أيديولوجية، تحدد تعريفه، كما تحدد سياق استخدامه العملي والسياسي. 

وقد رفع هذا الشعار، ولا يزال، من قبل معظم النخب العربية التي حكمت دولنا منذ استقلالها عن الأجنبي ولغاية يومنا الحالي.

ارتبط التقدم في أحد جوانبه بالإبداع العلمي والتقني، وما نعيشه اليوم من تطور هو جزء من سياق عالمي، بدأ بشكل واضح مع التطور الذي سبق وواكب الثورة الصناعية الأولى في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وأصبح لدينا ما بات يعرف ب«براءات الاختراع»، التي أصبحت كلمة سر مهمة في التطور؛ بل في التنافس والصراع الاقتصادي والسياسي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن جزءاً لا يستهان به من الصراع الحالي بين الولايات المتحدة والصين يدور حول براءات الاختراع، وحقوق الملكية الفكرية، حيث تتهم واشنطن بكين بسرقة براءات اختراع أمريكية، من دون أن تكون قد دفعت أي مقابل لها، في الوقت الذي يكلف كل اكتشاف أمريكي جديد أموالاً طائلة، عدا ما يتضمنه من معرفة وجهود طويلة مضنية في البحث والعمل.

ارتبط صعود الرأسمالية بالإنفاق المتزايد على الأبحاث، لتطوير الصناعات، والحصول على عوائد مالية أكبر، فمن خلال تطوير صناعة ما، يمكن احتكار الأسواق، كما أن الاستجابة لمشكلات معينة من خلال إيجاد حلول لها يسهم في توسيع السوق نفسها، وهو ما يضمن فعلياً استمرار الشركات في العمل، ويضمن استقرار المجتمعات المنتجة، وقوة الدول التي تضم تلك الشركات، وتتبادل معها عمليات الدعم المختلفة. وبالتالي فإن التقدم في هذه الحالة أصبح مرهوناً بالقدرة على زيادة الإنفاق في عمليات البحث والتطوير، في عملية تبادلية بين الإنفاق والمكاسب المالية التي تصب في نهاية المطاف في مؤشرات تقدم الدول، مثل التعليم والصحة والخدمات العامة والرفاهية، وغيرها.

يستند تفوق الدول الكبرى في العالم إلى معطيات عديدة، من بينها الإنفاق على عمليات البحث والتطوير، حيث تأتي الولايات المتحدة في المركز الأول من حيث الإنفاق، بمبالغ تصل إلى حوالي نصف تريليون دولار سنوياً، وتلحق بها الصين، ثم دول الاتحاد الأوروبي، واليابان، وتتناسب المكانة التي تحتلها الدول على الساحة العالمية مع ما تنفقه على مجالات البحث، وهو الأمر الذي يوضحه موقع كل دولة في تصنيف الدول من حيث الإنفاق على الأبحاث، وتطوير البنى اللازمة لها، مثل الجامعات ومراكز البحث والمختبرات، إضافة إلى البنى القانونية الضرورية لعمليات البحث.

وكما أن التقدم مرهون بالبحث والتطوير، فإن البحث بوصفه نشاطاً فكرياً وعلمياً، ليس مفصولاً عن سياق التطور التاريخي، أو التطور السياسي، والبيئة العامة التي يتطلبها، وفي مقدمتها ما يعرف ب«حرية البحث»، وهذه الحرية يكتسبها الباحث في جزء مهم منها، من خلال المناهج العلمية والبيئة التعليمية وعمليات تكوين الباحث وتأهيله، كما تمت حمايتها بفضل الدساتير والقوانين، حيث يشكل النظام الديمقراطي المظلة الكبرى التي تضمن الحريات، ومن ضمنها حرية البحث.

يحتاج التقدم إلى بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية مستقرة، وتشكل الديمقراطية أحد أهم الأسس التي تضمن الاستقرار، وهذا الاستقرار لا يعني أبداً غياب المشكلات أو التناقضات، لكنه يفسح في المجال لحلها في إطار سياسي يكفل للجميع حرية التعبير عن المصالح والآراء، وبالتالي، فإن غياب الديمقراطية أو الانتقاص منها، يصبح بيئة مضادة للتقدم.

في طيات مئة عام الماضية التي عرفتها أجيال عربية عديدة، هناك حديث لم ينقطع عن الحاجة إلى التقدم، لكن مسار التقدم بقي بعيداً، فما زالت الديمقراطية حلماً، ولا تزال مساهمة الدول العربية من أضعف المساهمات في الإنفاق على البحث والتطوير، ولا يبدو أن هذا المسار سيتغير في المدى المنظور أو المتوسط.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"