من الشعب إلى المواطنة

00:19 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

لا تُلقي التحولات التاريخية بثقلها على الواقع فحسب؛ وإنما على منظومة المفاهيم، فالتاريخ ليس مجرد وقائع؛ بل أيضاً صناعة مفاهيمية، فالإنسان هو الكائن الصانع للمفاهيم والعامل بها، لذلك فإن رصد تاريخ البشرية هو أيضاً رصد لتطور المفاهيم. وقد شهد تاريخ المفاهيم فترات نمو وتحوّل للمفاهيم أكثر سرعة من غيرها، وتعد الفترة الممتدة من القرن الثامن عشر ولغاية يومنا الحالي من أكثر الفترات التي شهدت تطوراً في الحقل المفاهيمي. ففي القرن الثامن عشر حدثان عالميان تركا بصماتهما على مجمل التاريخ المعاصر، وهما الثورة الصناعية الأولى، وفلسفة التنوير.

وفي إطار صعود القومية ابتداء من القرن التاسع عشر، كان لمفهوم الشعب دور رئيسي في بناء الدولة/الأمة، حيث يشكل الشعب، إضافة إلى عاملي الإقليم والسيادة السياسية، ركناً أساسياً؛ بل الأكثر أساسية في ثالوث مفهوم الدولة الحديث، وقد ألهم مفهوم الشعب الأحزاب القومية ليس فقط في أوروبا؛ بل في بقاع كثيرة من العالم، حيث أصبحت مقولة الشعب رافعة وهدفاً في الأيديولوجيات الحزبية، وخصوصاً السلطوية، وقد تمّ شحن هذا المفهوم بحمولات متعددة تتناسب مع الاستخدام والاستثمار العقائدي، ليس فقط من أجل بناء هوية عامة للمجموعات البشرية؛ بل أيضاً في مقابل  وبالتضاد مع  الآخر والتمايز عنه، وقد كانت الحمولات التاريخية والعنصرية هي الأشد وطأة من غيرها في تاريخ الحركات القومية من حيث النتائج، وكانت كارثية على المستوى العالمي في بعض الأحيان.

وفي ساحة تنافس ثلاثية الأبعاد، كان هناك إلى جانب الأيديولوجيا القومية، تياران آخران هما الليبرالية والماركسية، اشتبكا مفاهيماً مع التنظيرات القومية من موقع موازٍ ومناقض في الآن نفسه، فالليبرالية ركزت على الفرد وحقوقه، واعتبرت الفرد هو الأساس في البنية الاجتماعية، بينما ركزت الماركسية على تحليل منظومة الإنتاج الرأسمالي، والموقع الطبقي، حيث إن الانتماء الرئيسي للعامل هو مصالح الطبقة العاملة. وعلى خلاف القومية، فإن الليبرالية امتلكت وطورت عدة مفاهيمية عالمية، كما أن الماركسية لا تزال تجدد مفاهيمها من خلال تطور الصراع الرأسمالي نفسه.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وما تركته من نتائج كارثية على مستوى الخسائر البشرية والمادية، حدثت تحولات مهمة في الدول القومية، وخصوصاً الدولة القومية الأوروبية، فقد حدث انزياح كبير في الواقع والمفاهيم، معاً، وهو انزياح لمصلحة تخفيف وطأة الحمولات التاريخية والقومية في التنظير الفكري/السياسي، وفي العمل المباشر واليومي للقوى السياسية، وأصبح حضور مفهوم المواطنة أكثر قوة. 

فالبنى الدستورية الجديدة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، تركز بشكل أساسي على الفرد/المواطن، وهذا الانزياح رافقته طبيعة جديدة في فهم العمل السياسي التنافسي، من حيث التركيز على الاقتصاد والخدمات العامة، والتركيز على المواطن بصفته «المواطنية» بالدرجة الأولى، وليس بوصفه عنصراً غير محدد الملامح في مقولة/مفهوم عام هو الشعب.

تسمح بنية مفهوم المواطنة بجملة من التعيّنات المباشرة، على خلاف مفهوم الشعب الذي ينحو منحى العمومية، كما يمكن قياس مقدار تحقق مفهوم المواطنة في الواقع العملي من خلال مؤشرات محددة، حيث إن تحقق المواطنة يشترط تحقق الحرية والمساواة والمسؤولية والمشاركة، وهي قضايا يمكن التحقق من مدى وجودها عبر معاينة مدى تطابق الدساتير مع الواقع الفعلي، وفصل السلطات الثلاث: «التشريعية والقضائية والتنفيذية»، وحرية التعبير والإعلام، ومدى الالتزام العام بالقوانين، ومستوى إنفاذ القوانين من قبل المؤسسات المعنية، وتكافؤ فرص التعليم والعمل والاستشفاء، وغيرها من المؤشرات التي يمكن رصد مؤشراتها صعوداً أو هبوطاً، ويمكن معالجتها وتصحيح مساراتها من خلال مجالات عديدة، من أبرزها العمل السياسي والنقابي والحقوقي.

الفارق الرئيسي بين الدولة المتمحورة على فكرة الشعب، كمنطلق وغاية، وبين دولة المواطنة، هو أن الأولى لا يشترط وجودها الديمقراطية والعلمانية، بينما تشترط دولة المواطنة الديمقراطية والعلمانية. فالدولة القومية قد تكون دولة استبدادية؛ إذ إن مفهوم المواطنة يشترط أن تكون الدولة حيادية تجاه جميع مكوناتها وأفرادها، وغير منحازة لأي طرف، كما تشترط المساواة في الحقوق، وفي مقدمتها الحقوق السياسية، وهو ما لا يمكن تحقيقه في نظام غير ديمقراطي تعددي، يقوم على تداول السلطة بطريقة سلمية، تحكمها القوانين والرقابة والشفافية. وبناء عليه، فإن الدول الحديثة لم تعد تعبّر عن شعوب بصيغة عمومية؛ بل عن مواطنين ذوي حقوق وواجبات محددة، ومصالح لا يمكن طمسها أو استغلالها تحت شعارات عامة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"