تفتيت وحدة المعايير الدولية

00:42 صباحا
قراءة 4 دقائق

حسام ميرو

لم يمر النظام الدولي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتأسيس الأمم المتحدة في عام 1945، بمرحلة كانت فيها المعايير الدولية محل خلاف وتباين كما في العقدين الأخيرين، وزادت هذه الحالة حدة في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى اللحظة الراهنة، التي تبدو فيها المنظومة الدولية فاقدة للاتفاق على معايير محددة تجاه معظم القضايا السياسية والاقتصادية، خصوصاً أن الأمم المتحدة، التي يفترض أنها مرجعية معظم المعايير في العلاقات الدولية، تبدو في حالة انقسام غير مسبوقة؛ بل أصبحت، بشكل من الأشكال، المرآة التي تعكس مستوى الاختلاف والتباين بين الدول الكبرى، حول المعيار الذي يمكن من خلاله تبني مواقف أممية واحدة.

وإذا كانت المعايير المحددة في المواثيق الدولية، مرتبطة بمرجعية تأسيسية، قامت عليها الأمم المتحدة لحظة نشوئها، وهي الهدف الأسمى للأمم، أي «تحقيق الأمن والسلم العالميين»، فإن هذا الهدف السامي والمطلوب للحفاظ على التوازنات الإقليمية والعالمية، يبدو أنه لم يعد من أولويات الدول الكبرى نفسها، فما يحدث من الناحية العملية، هو التضحية بعدد من التوازنات في غير مكان من العالم، ومن الطبيعي في هذه الحالة من عدم الاكتراث بفكرة التوازن وضروراتها، أن يتم تجاهل المعايير من قبل الدول، أو العمل بها انتقائياً، بما يخدم سياسات آنية، لهذه الدولة أو تلك.

وإذا كانت بعض الاتجاهات التحليلية، التي سادت لفترة طويلة في العلاقات الدولية، والقائلة بأن الهدف من إنشاء الأمم المتحدة، كان من الناحية العملية/ المصلحية، الحفاظ على تفوّق وتحكّم القوى العظمى بإدارة العالم، بما يحفظ مكانتها العالمية، إلا أن خارطة التحوّلات العالمية، غيّرت الكثير من موازين القوى التي كانت سائدة في العام 1945، ومع ذلك، فإن تلك الموازين القديمة، أنتجت جملة من المعايير، التي كانت تخفّف إلى حد كبير من العبث بالتوازنات الإقليمية، وتفسح في المجال أمام حالة من الاستقرار، تستفيد منها الدول والشعوب، خصوصاً من أجل التنمية.

كان من غير المقبول أوروبياً، على سبيل المثال لا الحصر، إعادة إنتاج الحروب في القارة، وجعلها نموذجاً للاستقرار، وهذا الهدف الذي كان متّفقاً عليه بين القطبين الكبيرين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ينسجم مع الهدف الرئيسي للأمم المتحدة، أي حفظ الأمن والسلام، وعلى الرغم من تفكّك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وتوحيد شطري ألمانيا، الغربي والشرقي، ودخول معظم الدول التي كانت في الاتحاد السوفييتي، إلى «حلف الناتو»، والاتحاد الأوروبي، إلا أن الهدف القديم، المتعلّق بمنع نشوب الحروب بين دول القارة، بقي قائماً، بوصفه أحد معايير استتباب الأمن بين الدول، والدفع بالمنافسة من المجال العسكري إلى المجال الاقتصادي/ الاجتماعي، وأيضاً القانوني، إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية، أوضحت أن المعيار السابق كان مقبولاً غربياً، طالما أنه يسمح بتمدد «الناتو»، من دون ردّ فعل من قبل روسيا، وأنه كان مقبولاً روسياً، طالما أنه لم يصل إلى مرحلة تهديد المصالح القومية الروسية.

اتخاذ قرار الحرب من قبل قوة عظمى، خارج التوافق في الأمم المتحدة، كانت قد لجأت إليه الولايات المتحدة وحلفاؤها، لغزو العراق في عام 2003، بعد أن فشلت واشنطن في إقناع دول رئيسية بمبررات الحرب، وقد كان هذا الخرق الكبير لمعيار التوافق الدولي في المؤسسة الأممية، إشارة قوية إلى أن هذا المعيار الرئيسي يمكن خرقه، حين يكون هذا الخرق مصلحة منفردة لدولة، أو لمجموعة دول، بغضّ النظر عن موافقة قوى أساسية في الأمم المتحدة، وحتى ضمن مجلس الأمن، وهذا الخرق لمعيار التوافق والإجماع، أصبح إحدى سمات العلاقات الدولية، في العقدين الماضيين.

اليوم، لا تزال دول «حلف الناتو» تزعم أنها ملتزمة بعدم الانخراط المباشر لمصلحة أوكرانيا ضد روسيا، إلا أن هذا الادعاء يبدو مجرّداً من أية قيمة عملية؛ إذ إن القسم الأكبر من الإمدادات المالية والعسكرية للحكومة والجيش الأوكرانيين، يأتي من واشنطن والاتحاد الأوروبي، وبالتالي، فإن محاولة التمييز بين الانخراط المباشر وغير المباشر، تبدو لا مكان لها في التصريف السياسي العملي، وأن معيار عدم إرسال القوات العسكرية، للقول بعدم الانخراط المباشر، هو معيار ناقص، يمكن القفز من فوقه إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وهو ما يبدو جلياً من وجود اتجاه حالي، فرنسي خصوصاً، لإرسال قوات غربية إلى أوكرانيا.

أتاح هذا الوضع الدولي في تجاوز المعايير الدولية من قبل القوى الكبرى، إمكانية عدم التزام دول متوسطة أو صغيرة بالمعايير الدولية، فإذا كانت القوى التي يفترض بها أن تحمي المعايير الدولية، التي تمنع تقويض السلم والأمن العالميين، قد تجاوزتها للدفاع عن مصالح قومية خاصة، بعيداً عن أية اعتبارات أخرى، فما الذي يجبر دولاً أخرى على الالتزام بها، وهذا هو واقع حال عدد من الدول المهمة إقليمياً، ومتوسطة الوزن دولياً، في الشرق الأوسط، من العمل خارج أية معايير، مثل الالتزام بمبدأ سيادة الدول على أراضيها، وعدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول الأخرى، أو الالتزام بمبدأ حماية المدنيين أثناء الحرب، أو الالتزام بأبسط المعايير الحقوقية المتعلقة بحقوق الأفراد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/a67w7cth

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"