«التغريبة الأرمينية» المفتوحة

23:47 مساء
قراءة 3 دقائق

محمد نورالدين

نجحت أذربيجان باستعادة أجزاء كبيرة من الأراضي التي سيطرت عليها أرمينيا منذ بداية تسعينات القرن العشرين. ويمكن القول إن الحرب التي شنتها باكو قبل شهر ونصف الشهر على كراباخ وأرمينيا، أعادت الوضع إلى ما كان عليه نسبياً، أيام الاتحاد السوفييتي.

الاتفاق الذي رعته روسيا بين أرمينيا، وأذربيجان، يوم الاثنين الماضي، ربما أنهى الحرب الحالية، لكنه لم ينه الأزمة، ولا حل قضية كراباخ. لكنه كان أكثر من ضرورة لمراجعة كل طرف حساباته تمهيداً للنزال المقبل.

 الاتفاق المؤلف من تسعة بنود أدخل تعديلات مهمة على الخريطة الميدانية، بعضها استراتيجي.

 في الاتفاق أن تعود أذربيجان بحلول مطلع الشهر المقبل، إلى جميع الأراضي التي كانت تحتلها أرمينيا منذ اكثر من ربع قرن. وفي هذا إنجاز أذري. أما منطقة كراباخ نفسها فستبقى القوات الأرمنية حيث هي، أي في نصف مساحة الإقليم تقريباً، على أن تكون بإشراف قوة عسكرية روسية بدأت الانتشار هناك. ومن أهم ما في الاتفاق تشريع وجود ممر لاتشين بين أرمينيا، وكراباخ، بحماية روسية، مقابل فتح ممر بري يعمل على إنشائه وتوسيعه بين أذربيجان، ومقاطعة نخجوان التابعة لها، ويمر عبر الأراضي الأرمنية، ويكون الممر بحماية القوة الروسية. وبذلك تكون باكو، ومن خلفها أنقرة، قد حققتا وصلاً برياً عبر أرمينيا للمرة الأولى من دون المرور عبر الأراضي الإيرانية. وهذا كان من أهداف الحرب منذ اللحظة الأولى.

 وبموجب الانتشار الجديد الميداني للقوى المتحاربة فإن كراباخ تكون عملياً، قد تقسمت إلى قسمين، واحد تحت سيطرة أذربيجان، وآخر تحت سيطرة القوة العسكرية الروسية.

 واعتماد قوة عسكرية روسية من 1960 جندياً مع كل آلياتهم كان نجاحاً روسياً لمنع تركيا من مشاركتها في اللعبة الميدانية. واستمرارها في لعب دور الراعي الأوحد.

 الاتفاق انتصار أذري واضح، ويجعل من أذربيجان قوة إقليمية عسكرية صاعدة، إضافة إلى كونها قوة اقتصادية في مجال الطاقة، وينصّب الرئيس الهام علييف بطلاً قومياً.

 وفي المقابل، فإن الوثيقة التي وقعها نيكول باشينيان، رئيس وزراء أرمينيا، سوف تعجّل بنهايته في وقت قريب. فهو الخاسر الأكبر في الحرب، ووجد نفسه معزولاً عن أي حليف، بما في ذلك روسيا، وإيران، وكل ذلك بسبب محاولته الابتعاد عن روسيا، وأخذ التعليمات من واشنطن التي تركته، في لعبة الأمم والمصالح، ينتحر على قارعة الطريق.

 حتى الآن، ليس واضحاً ما إذا كانت تركيا ستكون جزءاً ميدانياً من الاتفاق، ولو في مناطق محدودة. هذا هدف تركي أساسي بترجمة انتصار باكو إلى انتصار سياسي أيضاً لتركيا على طاولة مفاوضات جنوب القوقاز. روسيا ستحاول مواصلة منع إشراك تركيا في عملية الحل لكن ليس واضحاً مدى قدرتها على مواصلة ذلك لفترة طويلة.

 ولا شك في أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيجيّر انتصار باكو في الحرب، في الداخل التركي. فأردوغان خاض الحرب من خلف أذربيجان كما لو أن بلاده هي التي تخوضها، بل كان أردوغان يعلن بنفسه نتائج المعارك، وأحياناً قبل صدور بيانات من باكو. هذا الانتصار التركي سوف يحاول أردوغان أن يعزز به أوراقه في مواجهة سياسات الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، الذي كان توعد بإسقاط أردوغان عبر الانتخابات المقبلة.

 وفي محصلة لعبة الأمم في كراباخ، فإن الضعيف بقوته العسكرية، وشبكة علاقاته، يكون هو الخاسر الأكبر. والاتفاق أوقف الحرب، ووضع ترتيبات مهمة وعنكبوتية، لكنه لم يضع خريطة لحل القضية الأرمنية في كراباخ، ومحيطها. وعلى الرغم من الضربة الموجعة جداً، والخطيرة، الثانية بعد إبادة عام 1915 من حيث حجم قساوتها، ستبقى القضية الأرمنية قضية حق، وعدالة، في وجه نزعات التغوّل العنصرية التركية في آسيا الصغرى، والقوقاز. وللأسف، ما كان حلماً قبل الحرب الحالية تحول إلى مجرد ذكرى حزينة في «تغريبة أرمنية»، امتهنت الدموع، ودروب الهجرات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"