قيم المواطنة والتحولات المجتمعية

23:46 مساء
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

يحمل مفهوم المواطنة معاني وتمثلات مختلفة وكثيراً ما يذهب أصحاب الحس المشترك الذين يمثلون السواد الأعظم من الناس إلى ربط المواطنة بالحقوق التي يصبون للحصول عليها بعيداً عن الالتزام بالعقد الاجتماعي الذي يضبط العلاقة بين الحكام والمحكومين. 

ويشير برتراند بادي، إلى أن المواطنة يمكن أن تعرّف من الناحية القانونية، بأنها التمتع بالحقوق المدنية المرتبطة بالجنسية، ونعني بذلك الآن الحق في الانتخاب، والأهلية للانتخاب، وممارسة الحريات العامة التي تعطي معنى للمشاركة السياسية والحق في الوصول إلى وظائف السلطة، ويتعلق الأمر في الدساتير الحديثة بالمواطنة المستندة على حقوق الإنسان التي ترى أن المواطن هو المصدر الأول للسيادة.

 وتعني المواطنة أيضاً، الانخراط السياسي الفاعل المرتبط بالاهتمام الذي يبديه الفرد نحو الشؤون العامة وبالمشاركة الطوعية في النشاطات ذات المنفعة العامة وبحب الوطن واحترام القانون والتضامن مع أعضاء المجموعة الوطنية الواحدة مع الأخذ في الحسبان المبادئ التالية: المساواة، المسؤولية، استقلالية الحكم، لكن مع الحرص على أن لا يظل مفهوم المواطنة بعيداً عن مقتضيات الواقع، وأن يستند على مبادئ العدالة الاجتماعية التي يؤدي غيابها إلى انتشار كبير للفوارق وإلى وجود وضعيات اجتماعية تتميز بالإقصاء، ويشير مفهوم المواطنة في السياق نفسه إلى حرص النظام السياسي للدولة على سيادة مبدأ الفصل بين السلطات وعلى أن يكون هناك توازن في الصلاحيات الممنوحة لكل المؤسسات المنتخبة.

 لا ريب إذاً أن مفهوم المواطنة يرتبط بشكل تلقائي بمفهوم المواطن، ويذهب دومينيك شنابر، إلى أن المواطن يمثل كياناً قانونياً ويمتلك الحقوق المدنية والسياسية ويتمتع بالحريات الفردية، وبحرية الضمير والتعبير، وحرية التنقل والزواج، كما يملك الحق في أن يعامل من طرف العدالة اعتماداً على قانون يساوي بين الجميع، شعاره أن المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته، وذلك إضافة إلى حقه في المشاركة السياسية وفي تولي المناصب العليا، وفي مقابل ذلك فهو ملزم بتطبيق القوانين والمشاركة في الإنفاق الجماعي بحسب موارده المادية والدفاع عن المجتمع الذي هو عضو فيه عندما يكون مهدداً. 

وبالتالي، فإن الثورة الفرنسية ومن خلال إعلانها عن سيادة المواطن وضعت اللبنات الأولى لمبدأ تعالي الخصوصيات في سياق الأمة؛ بحيث يتوقف المواطن عن أن يكون فرداً حقيقياً، لكي يمارس أفعاله في المجال العمومي بوصفه مواطناً. ويصبح، من حيث المبدأ، مواطناً على قدم المساواة مع الآخرين بصرف النظر عن أصوله التاريخية وعن معتقداته الدينية وانتماءاته الاجتماعية.

 وعليه، فإنه ونظراً لكون المواطنة تمثل أيضاً أساساً للمشروعية السياسية، فإن المواطن لا يمكن النظر إليه فقط ككيان قانوني؛ بل هو يملك فضلاً عن ذلك قسماً من السيادة السياسية لأن المواطنين الذي يتشكلون في سياق مجموعة وطنية هم الذين يقومون من خلال الانتخابات باختيار الحكومات، وهم مصدر السلطة ويملكون القدرة على تبرير القرارات التي تقوم الحكومات بتنفيذها، وهم الذين يراقبون كل برامجها ونشاطاتها، لكن عليهم في المقابل، بوصفهم محكومين، تنفيذ أوامر الحكومات التي اختاروها ويسهرون على مراقبتها من طرف ممثليهم.

ويمكن القول إن المواطنة تعتمد على التمييز ما بين المجالين العام والخاص اللذان يمثلان أساس النظام الاجتماعي؛ حيث يحتفظ المواطن بكل خصوصياته وحرياته التاريخية في المجال الخاص ويلتزم بالمساواة في الحقوق وبالضوابط والقواعد المشتركة في المجال العام، ويتخلى عن خصوصياته لضمان انسجام المجموعة الوطنية التي اختار أن يكون جزءاً منها، ومن ثم فإن الخصوصية المعترف بها في المجال الخاص لا تلغي الطابع الكوني لروح المواطنة. وعلاوة على أن المواطنة تمثل المبدأ الأساسي للمشروعية السياسية، فإنها الأصل الذي ينبثق منه الرابط الاجتماعي بين المواطنين.

ويشير جان فرانسوا دوروتيه، إلى أن التحولات المجتمعية قد قادت إلى تطورات على مستوى دلالات المواطنة وبخاصة في المجتمعات الغربية نتيجة سعيها إلى إدماج مهاجرين من ثقافات مختلفة يطالبون بحقوق ثقافية، إضافة إلى حقوقهم المدنية التي يكفلها لهم القانون، وقد ترافق كل ذلك مع تدني مستوى المواطنة بمعناها التقليدي؛ حيث تراجع الحس المدني والانتماء الوطني وانحسرت المشاركة في الانتخابات والالتزام النقابي وتقلص دور المجتمع المدني؛ ولتجاوز هذه الأزمة المتعلقة بالمواطنة الكلاسيكية قدمت اقتراحات عدة من أبرزها، المواطنة الأوروبية التي تهدف إلى المزاوجة بين المواطنة القومية والمواطنة القارية، ثم المواطنة الساعية إلى تعديل المواطنة الكلاسيكية لتستجيب لمتطلبات المجتمعات المنفتحة التي تعترف بالخصوصيات الثقافية في ظل احترام قيم العيش المشترك.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"