سؤال الدولة في إفريقيا

23:18 مساء
قراءة 3 دقائق

د.إدريس لكريني

كان لسقوط الاتحاد السوفييتي (سابقاً) ونهاية الحرب الباردة، الأثر الكبير في تفجّر الأوضاع في عدد من البلدان الإفريقية التي كانت تابعة للمعسكر الشرقي وتتبنّى نظام الحزب الواحد.

كما لا تخفى أيضاً تداعيات الديون الخارجية التي أثقلت كاهل الأنظمة حينها، وما خلفته من إكراهات اقتصادية واجتماعية كبرى، من فقر وبطالة وهشاشة.. شكّلت أرضية لاندلاع الاحتجاجات، وتزايد المطالب الدّاعية للتغيير.

شهدت الكثير من البلدان الإفريقية نزاعات دامية (الصومال، والكوت ديفوار، ورواندا وكينيا، وسيراليون، والكونجو، ونيجيريا، وبوروندي..)، وهي النزاعات التي خلّفت آثاراً إنسانية واقتصادية وبيئية خطرة؛ بل وأدّت إلى تهديد السلم والأمن الدوليين، مع تدفّق اللاجئين عبر الحدود.. وتحوّل العديد من الصراعات الداخلية إلى نزاعات وحروب إقليمية..

وشكّلت الصّراعات العرقية والإثنية والدينية عاملاً أساسياً في عرقلة التحوّل في دول القارّة التي تحفل بمكوناتها الاجتماعية والثقافية المختلفة؛ حيث انعكس ذلك على تكوين وأداء الأحزاب السياسية التي ظلّت تقوم في أغلبها على أسس طائفية ضيقة، بدل الارتكاز إلى البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. كما ظلّ الولاء بدوره خاضعاً لهذه الاعتبارات، ممّا جعل الانتماء ضيّقاً. وقد فتحت هذه العوامل مجتمعة باب التدخلات الأجنبية التي عمقت المشاكل والصراعات أكثر..

وقد زاد من حدّة معاناة شعوب هذه القارة، ما فرضته الأنظمة الاستعمارية من مظاهر التمييز العنصري، إضافة إلى انتشار الأوبئة والأمراض والفقر والجفاف الذي عمّق هذه المعاناة، بصورة أثّرت سلباً في مكانة القارة دولياً، علاوة على تفشّي الصراعات الداخلية المسلّحة وتعاقب الانقلابات في عدد من الأقطار.

ساهمت كل هذه الإشكالات في تكريس تبعية العديد من دول القارة للمؤسسات المالية، وللدول الغربية الكبرى، ما كان له التأثير السلبي الواضح على مستوى تحقيق التنمية، على الرغم من الإمكانات الطبيعية والبشرية المهمة المتوافرة، والموقع الاستراتيجي الذي تحظى به القارة.

أما على المستوى السياسي، فقد شهدت إفريقيا عدداً كبيراً من الانقلابات السياسية والعسكرية التي كشفت عن هشاشة السلطة وعن ضعف المؤسسات، وكرّست نظماً منغلقة وشمولية وفاقدة للشرعية، أدخلت الكثير من الدول في متاهات من العنف والصراع، وعرّضت شعوبها للتقتيل والترحيل والأزمات الاجتماعية والإنسانية.

وتحت ضغط التحولات المتسارعة التي شهدها العالم بعد نهاية الحرب الباردة، وتزايد الاهتمام بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ تنامت مطالب الشعوب الإفريقية بإعمال إصلاحات سياسية واقتصادية، واكبها دعم دولي واسع، ما سمح بظهور عدد من التجارب الديمقراطية الواعدة، خلفت قدراً من الاستقرار، وأفرزت تفاؤلاً داخلياً ودولياً.

لا تخلو التجارب السياسية في إفريقيا من ارتدادات وصعوبات، فقد شهدت مالي صراعاً عنيفاً على السلطة في بداية التسعينات من القرن الماضي، ما أدّى إلى إسقاط حكم الرئيس «موسى تراوري»، وبعد فترة تمّ انتخاب «ألفا عمر كوناري» بتاريخ 9 يونيو/ حزيران من عام 1992 كأول رئيس منتخب بشكل ديمقراطي بالبلاد، بعد عدّة عقود من هيمنة المؤسسة العسكرية على السلطة بالبلاد. ولم يكتب لهذه التجربة الإفريقية الفتيّة النجاح؛ حيث شهدت مجموعة من الارتدادات، فقد أحدث انقلاب الجيش على نظام الرئيس «أمادو توماني» في مارس/ آذار 2012 فراغاً أمنياً بالبلاد وأربك مسارها السياسي، كما جرى تمرّد للجيش على السلطة الشرعية في شهر أغسطس/ آب من عام 2020.

إن استمرار مظاهر الانقلاب على الحكم بصورة متكررة، واللجوء إلى القوة العسكرية في تدبير الخلافات والصراعات السياسية، في عدد من الدول الإفريقية؛ يبرز أن مجمل التدابير والإجراءات التي اتخذت في أعقاب الأزمات والصراعات الدامية التي مرت بها القارة على امتداد العقود الماضية، لم ترتكز على مؤسسات قوية تدعم الانتقال السلمي والسلس للسلطة، وتوفر شروط التنمية المستدامة.

ما تزال الشعارات التي أطلقتها النخب التاريخية بعد الاستقلال، أو النخب الجديدة ما بعد انهيار جدار برلين، بصدد تطوير الاقتصاد وتحقيق التنمية في إفريقيا، لم تتحقّق، بفعل تفاقم المعضلات الاجتماعية وتفشي الفساد، وارتفاع نسب المديونية الخارجية، وتزايد التدخلات الدولية..

ولا يزال بناء الدولة في هذه القارة بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد؛ لإرساء مؤسسات وطنية ومستقلة وشرعية، تستوعب كل مكونات المجتمع بخصوصياتها المختلفة، وتستمد سلطاتها من إرادة الشعوب، بعيداً عن كل الحسابات العرقية والإثنية.. وعن الإملاءات والضغوط الخارجية.. في إطار نموذج إفريقي يستمد مقوماته من خصوصية القارة وحضارتها العريقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"