التقدم من منظور جندري

00:41 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

عرف النضال من أجل الحرية مراحل مختلفة منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر، لكن مفهوم الحرية ذاته تنوّع وتوزّع بين مرجعيات وحركات فكرية وسياسية مختلفة، ومثّلت الليبرالية أحد الروافع الرئيسية لفكرة الحرية، خصوصاً أن حق الحرية، يشكل إلى جانب حقي الحياة والتملك، ثالوث الحقوق الليبرالية، وقد بزغت الحركة النسوية في صلب الحركة الليبرالية لتدافع عن الحقوق المختلفة للنساء، باعتبار تلك الحقوق جزءاً أصيلاً في منظومة الحرية، وقد استفادت الحركة النسوية من التلازم النظري الذي أوجدته الليبرالية بين تحقّق الذات وبين استقلالية الفرد.

يعد مفهوم الجندر مفهوماً حديثاً نسبياً، يعود إلى نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي، ولئن ظهر بداية في أمريكا الشمالية وأوروبا إلا أنه سرعان ما أصبح مستخدماً على نطاق واسع عالمياً، وأصبحت القراءة الجندرية، الداعية إلى التساوي بين الرجال والنساء، تفرض نفسها على مجالات عديدة، من بينها، بل في مقدمتها، المجال الاقتصادي، فوجهة النظر المبنية على الجندر تقول بأن الاقتصاد يجب أن يكون في خدمة مجتمع الجندر، الذي تتساوى فيه الفرص بين الرجال والنساء، وخصوصاً فرص العمل، مع مراعاة أن يتزامن مع هذا التساوي تعادل قيمة الأجر، التي يجب ألا تخضع لتمييز قائم على الهوية الجنسانية للفرد.

قد يكون من الصعب وضع الحركات النسوية في العالم في خانة واحدة من حيث التحديات والمطالب، بل من حيث وجود قراءة فكرية واحدة ترتكز إليها كل تلك الحركات، فالحركات النسوية، أسوة بكل الحركات المطلبية، تناضل في بيئات مختلفة، من حيث نمط الإنتاج، والدساتير، والتقاليد الاجتماعية، والبيئة السياسية، ومستوى التطور الأكاديمي، وغيرها من الفروقات الجوهرية، وهو ما يجعل لكل حركة من الحركات النسوية خصوصيتها، كما يجعل النجاح في تحقيق الأهداف مسألة نسبية للغاية، فمستوى العوائق يحدد مستوى القدرة على إحداث اختراقات عميقة للبنى الراسخة.

من وجهة نظر علم الاجتماع السياسي الحديث، فإن النضال الجندري من أجل حقوق متساوية لكلا الجنسين هو نضال من أجل التقدم الذي يخدم الصالح العام، ولم يعد مستغرباً أن الإحصاءات المتعلقة بالنساء أصبحت جزءاً لا يتجزأ من عملية تقييم الدول والمؤسسات والمجتمعات، كما يكشف وصول الكثير من النساء في الدول العظمى إلى أعلى المناصب السياسية في أحزابهن، أو في الحكومات، عن مدى انخراط النساء في مجمل البنى الإنتاجية والسياسية، ويعبر عن مستوى عالٍ من التطابق بين الدساتير وبين الواقع الفعلي، كما يعبر عن تحقق فعلي للكثير من الأهداف النضالية للحركة النسوية في تحقيق مساواة جندرية.

في كثير من دول العالم العربي، مع استثناءات نذكر منها دولة الإمارات، فإن مؤشرات مشاركة المرأة في مجمل الأنشطة المولّدة للفضاء العام، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، تعكس مستوى متدنياً من فاعلية المرأة، على الرغم من أن مجمل الدساتير أكّدت، بشكل أو بآخر، على مساواتها مع الرجل في نواحٍ عدة.

لأسباب عديدة بقيت الحركات النسوية العربية ضعيفة في تكوينها وحراكها وفاعليتها، وحالة الضعف هذه لا تنفصل عن واقع حال مختلف أوجه العمل في المجتمع المدني العربي، والتي تعاني مشكلات اجتماعية وقانونية عديدة، فما تزال مختلف القوانين في معظم البلدان العربية تقلص من مساحة عمل هذه المنظمات، وتحدّ من حرية حركتها وانتشارها، وبالتالي تحدّ من فاعليتها، ودفعها للتقوقع والنخبوية، بعيداً عن حاملها الاجتماعي، المتمثل بالفئات التي تتبنى هذه المنظمات قضاياها، ويضاف إلى المصاعب التي تواجهها الحركة النسوية جملة العادات والتقاليد الراسخة في بعض البيئات الاجتماعية، والتي تكبح فعلياً تحقيق النساء لذواتهن عبر التعليم أو العمل أو النشاط المدني والسياسي.

إن مراجعة مقولة التقدم في الوقت الراهن يجب أن تأخذ بالحسبان مسألة المساواة الجندرية، ليس باعتبارها وصفة جاهزة يمكن استيرادها من واقع مختلف، بل باعتبارها شأناً مجتمعياً محلياً/ وطنياً، يتفاعل مع معطيات محددة، وله تحديات يفرضها التاريخ والثقافة، وفي الوقت ذاته، يجب عدم إهمال المنجز الليبرالي الكبير في ربط تحقق الذات باستقلالية الفرد، وهي استقلالية تمتد على مساحة واسعة من المجالات، ولا يجب حصرها بالاستقلال الاقتصادي، بل بفكرة الحرية ذاتها، فالمجتمع الحر، رجالاً ونساءً، قادر على التقدم، والمجتمع المتقدم هو أكثر حرية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"