عادي

بريطانيا تودع الاتحاد الأوروبي لتخوض مغامرة «بريكست»

00:52 صباحا
قراءة 8 دقائق
1

سيكون عام 2020 آخر عام لبريطانيا بين دول الاتحاد الأوروبي، لتنتهي عملياً، وبداية من الأول من يناير 2021، عضوية مضطربة دامت نصف قرن في التكتل الذي يستعد لأقوى هزة في تاريخه، إذ نجحت أخيراً المحادثات الرامية لتجنب اضطرابات اقتصادية عنيفة في «القارة العجوز»، في إبعاد شبح «الخروج الفوضوي»، والخروج باتفاق مناسب في اللحظة الأخيرة، بعدما كادت المفاوضات أن تصل إلى طريق مسدودة، شكل معها الحصول على تسوية مُرضية شبة مستحيلة، ما حدا بالطرفين إلى الإعلان عن خطط بديلة، حملت معها نذر مواجهة خطرة، وحرباً كلامية، بعدما أعلن الجيش البريطاني مؤخراً عن نشر سفن حربية وآلاف الجنود في المياه البحرية، في استعراض خطر ل«دبلوماسية المدافع» في المياه الأوروبية.

ويترجم استعراض القوة الأخير مدى تصاعد أزمة «الطلاق النهائي» بين بروكسل ولندن التي صوّت شعبها في عام 2016 في استفتاء تاريخي على الانفصال، في ظل حكومة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، لتتولى بعده خليفته تيريزا ماي مهمة الدخول في مفاوضات مضنية للخروح باتفاق مُرضٍ ينظم العلاقة المستقبلية بين المملكة المتحدة والاتحاد، لكنها واجهت رفضاً متتالياً من البرلمان الذي رفض صيغاً عدة للخروج من الاتحاد، لتستقيل على إثرها.

لكن تولي رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون، المؤيد بشدة لخروج بريطانيا من الاتحاد، عمق كثيراً الأزمة، إذ طالما روج الرجل لنفسه على أنه «المنقذ»، مستخدماً خطاباً شعبوياً دغدغ به أنصار «بريكست»، مشدداً على ضرورة إطلاق يد بلاده في سن القوانين وعقد الاتفاقيات التجارية، بغض النظر عن القيود الأوروبية.

مخاوف متصاعدة

سياسة جونسون، عززها الشعور البريطاني بعدم التكافؤ في عضويتها الأوروبية؛ إذ تعد أكثر اعتماداً على الاتحاد من اعتماد الأخير عليها، وتمثل الصادرات البريطانية إلى دول الاتحاد نصف صادراتها، بينما لا تتجاوز نسبة أوروبا مجتمعة لبريطانيا 6%. وفي الحالتين يحمل الخروج المنظم أو الفوضوي للطرفين نتيجة مؤكدة بخسارة المليارات.

وجعل جونسون من إنجاز «بريكست» بأي ثمن هدفاً أولاً وأخيراً لحكومته التي تتمتع بأغلبية في مجلس العموم، وشدد، في أكثر من مناسبة، على عدم تمديد الفترة الانتقالية. وحقق في النهاية وعده بتنفيذ الطلاق التاريخي مع أوروبا في يناير الماضي.

وأمام المخاوف المتصاعدة من تداعيات الانفصال على اقتصاد بريطانيا، وحياة شعبها الذي يعيش أكثر من مليون ونصف المليون منه في الاتحاد، ويخشون من فوضى في السفر والتجارة، كرر جونسون في العديد من خطبه، أن بريطانيا ستزدهر، سواء بعقد اتفاق أو من دونه، مطالباً بروكسل باتفاق أشبه بالاتفاق الكندي أوبترتيبات أستراليا القائمة على مبادئ بسيطة للتجارة الحرة العالمية، وهو ما رفضه الاتحاد مراراً.

ومنذ الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، يحاول الطرفان التوصل إلى اتفاق يحكم تجارة تبلغ قيمتها نحو تريليون دولار سنوياً، قبل انتهاء الفترة الانتقالية في31 ديسمبر الجاري.

وتعلق الخلاف الحاد بين المفاوضين الأوربيين ونظرائهم البريطانيين بثلاث نقاط، خشى الطرفان من إبداء أي تنازل فيها. أبرز هذه النقاط تتعلق بالمنافسة، على الرغم من استعداد الاتحاد لتقديم اتفاقية تجارية غير مسبوقة إلى لندن من دون رسوم جمركية أو حصص؛ لكن في الوقت ذاته من دون أن يسمح بأن يتطور على أبوابه اقتصاد غير منضبط قد ينافسه بشكل غير نزيه.

معايير صارمة

وترفض أوروبا السماح لبريطانيا بالتسبب بمزيد من التلوث، بينما يتعين على المنتجين في القارة احترام معايير بيئية صارمة. كما تطلب المفوضية الأوروبية الالتزام بقانون العمل والشفافية الضريبية، وأن يتعهد البريطانيون بعدم انتهاكها. كما تطالب أيضاً بوضع «بند للتطور» لتحسين هذه المعايير الدنيا على مر الوقت لتبقى «قواعد اللعبة عادلة». وتريد بروكسل أيضاً ضمان التقارب على مر الوقت، وإلا فإنها تنوي اللجوء إلى تدابير مضادة أحادية الجانب وفورية، مثل فرض رسوم جمركية، وهو ما تعارضه لندن بشدة.

وتتعلق نقطة الخلاف الثانية بآلية تسوية المنازعات، أي محكمة للتحكيم في حال خرق الاتفاقية. ويطالب الاتحاد بأنه في حال حدوث انتهاك في مجال ما في الاتفاقية، بفرض عقوبات في مجال آخر. مثلاً، إذا انتهكت بريطانيا اتفاقية صيد السمك، يمكن للاتحاد تطبيق تعريفات على السيارات، وترفضه أيضاً لندن. وتحاول أوروبا تهدئة مخاوف صياديها الذين يخشون أن يخسروا إمكانية دخول المياه البريطانية الغنية بالسمك.

لكن تصلب المواقف على ضفتي بحر المانش جعل التوفيق بين الطرفين صعباً. فالجانب الأوروبي أصر على إبقاء الوضع على ما هو عليه فيما يتعلق بدخول المياه، ولندن أرادت سيطرة كاملة، وتحديد حصص يتم التفاوض عليها سنوياً.

وتشدد الاتحاد الأوروبي في مطالبه بشأن صيد الأسماك على الرغم من أن هذا النشاط لا يمثل غير جزء ضئيل من اقتصاد الدول ال27 والمملكة المتحدة؛ إذ يقوم الأوروبيون بصيد ما قيمته 635 مليون يورو سنوياً في المياه البريطانية، ويصيد البريطانيون 110 ملايين في المياه الأوربية.

ووجدت المناورات السياسية طريقها إلى الأزمة، مع انسداد الأفق في إمكانية التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن بين الجانبين، بسبب المفاوضات التي طال أمدها؛ إذ أكدت بروكسل هذا الشهر، استعدادها للقيام بخطوة إضافية للحصول على اتفاق عادل ومستدام ومتوازن، مخيرة لندن بين انفصال إيجابي أو خروج من دون اتفاق.

وعلى الرغم من تأكيد الطرفين بتمسكهما بالأمل في اتفاق عادل، فإن لغة التهديدات لم تنته، وجدّدت فرنسا تأكيدها أنه في حال تم التوصل إلى اتفاق «غير مطابق» لمصالحها، فقد تستخدم باريس حق «الفيتو» لوقفه. كما أكدت ألمانيا أيضاً بأنها لن تقبل باتفاق «بأي ثمن». وأمام التعنت البريطاني، اتهم مسؤولون أوربيون لندن بتبني «لهجة انتقام من أوروبا».

عقبة أيرلندا

الملف الأيرلندي الساخن بدوره حاضر بقوة في المفاوضات بين الطرفين، خاصة أنه يتعلق بوحدة الأراضي البريطانية، وقد أثار مناخاً من عدم الثقة والعدائية، باعتبارها نقطة فاصلة في الخلاف، والسبب يعود إلى أن أيرلندا الشمالية ستصبح المنطقة البريطانية الوحيدة التي تربطها حدود برية مع الاتحاد اعتباراً من العام المقبل، ويجب أن تبقى الحدود مفتوحة حفاظاً على اتفاق السلام المبرم في 1998 والذي وضع حداً لأعمال عنف استمرت لعقود.

وتزايدت حدة الخلاف بشأن الجزيرة الأيرلندية، إذ اتهم جونسون في سبتمبر الماضي، الاتحاد بمحاولة ضرب وحدة أراضي المملكة المتحدة من خلال فرضه ل«حصار غذائي» بين بريطانيا وأيرلندا الشمالية، ليصب بذلك الزيت على النار في المحادثات، مبرراً بعدها تقديم حكومته مشروع قانون مثير للجدل إلى البرلمان يتعارض مع اتفاق «بريكست». وأقر جونسون، بأنه أجبر على ذلك، بسبب ما وصفه ب«تفسير متطرف» للقواعد الخاصة للعلاقة بين أيرلندا الشمالية وبروكسل. وكتب، في صحيفة «ديلي تلجراف» آنذاك، «يقال لنا إن الاتحاد الأوروبي لن يكتفي بفرض رسوم جمركية على البضائع التي تنتقل من بريطانيا العظمى إلى أيرلندا الشمالية فحسب؛ بل قد يوقف أيضاً نقل المنتجات الغذائية من بريطانيا إلى أيرلندا الشمالية».

وعلى الرغم من الانتقادات البريطانية للقانون الذي رأه مشرعون قد «أضر بسمعة بريطانيا» كدولة «مدافعة عن القواعد الدولية»، فإن الرد الأوروبي بدوره كان عاصفاً؛ إذ هدد الاتحاد لندن باتخاذ تدابير قضائية في حقها ما لم تسحب التعديلات التي أدخلتها على الاتفاق، كما هدد قادة البرلمان الأوروبي بنسف أي معاهدة تجارية إن أخلت لندن بوعودها.

خطر الفوضى

وقبل أيام قررت الحكومة البريطانية التراجع عن قانونها المثير للجدل، بعد توصل مفاوضيها في بروكسل لاتفاق مبدئي لإبقاء العلاقات التجارية من دون عوائق حدودية، وضمان عدم وجود أي تقييد للتنقل والتواصل بين شطري أيرلندا.

ويحمل «الخروج البريطاني» تداعيات خطرة أيضاً بالنسبة إلى اسكتلندا، التي تعالت دعوات الاستقلال فيها، بعد«بريكست»، على الرغم من أن شعبها صوت في استفتاء تاريخي عام 2014، برفض الاستقلال عن بريطانيا. وتتمسك رئيسة الوزراء الاسكتلندية، نيكولا ستورجون، بإجراء استفتاء ثانٍ بشأن الاستقلال في أقرب وقت من العام المقبل، لتبدأ بعدها إجراءات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

ومع اقتراب المفاوضات من نهايتها، أقدمت حكومة جونسون على خطوة خطرة، قبل أسبوعين بإعلانها نشر أربع سفن حربية ضخمة بطول 80 متراً ومزودة بالمدافع والرشاشات، من أجل اعتراض السفن التي تصطاد الأسماك داخل المنطقة الاقتصادية البريطانية. وإضافة إلى ذلك، وضع نحو 14 ألف عسكري في حالة تأهب.

الخطوة البريطانية أثارت عاصفة من الانتقادات داخل بريطانيا وخارجها؛ إذ ذكرت البريطانيين بحقبة سابقة من تاريخهم، بالسبعينات تحديداً، التي شهدت مناوشات بين بلادهم وآيسلندا بخصوص صيد الأسماك، وعرفت ب«الحروب الباردة». واعتبر نواب محافظون خطوة الحكومة «غير مسؤولة» تعيد عهد «دبلوماسية المدافع» في القارة العجوز.

وقررت أوروبا الرد على الاستفزاز البريطاني، بالاستعداد بخطة للخروج الفوضوي، ونشر إجراءات طارئة لصيد السمك والنقل البري والجوي ستطبق اعتباراً من الأول يناير المقبل.

وحقق الطرفان تقدماً في المفاوضات، خاصة فيما يتعلق بقواعد المنافسة العادلة، بعدما وافق البريطانيون على آلية صارمة لعدم التراجع في المجالات البيئية والاجتماعية والضريبية. وقبل سبعة أيام فقط من خروجها، توصلت لندن إلى اتفاق تاريخي مع بروكسل، الخميس الماضي، وصفته ب«هدية عيد الميلاد». 

وأعلنت الحكومة البريطانية: «استعدنا أخيراً السيطرة على أموالنا وحدودنا وقوانينا وتجارتنا ومياه الصيد». وأكدت المفوضية الأوروبية، بدورها، أنه «حان الوقت لطي صفحة بريكست، لكي تظل المملكة المتحدة حليفة لنا»

فاتورة باهظة وخسائر فادحة

تتخوف الأوساط السياسية والاقتصادية في القارة الأوروبية وفي المملكة المتحدة على السواء من الكلفة الباهظة ل«بريكست» خاصة في ظل جائحة كورونا، إذ لن تكون بريطانيا هي الخاسر الوحيد من الانفصال الذي يتوقع أن يخلف اضطرابات عنيفة، ويهدد مكانتها كأبرز المراكز المالية العالمية، بل سيعاني التكتل الأوروبي بدوره من ويلات الخروج في وقت يئن اقتصاده تحت وطأة الخسائر الفادحة.

وبمجرد الخروج البريطاني، سيتراجع عدد سكان الاتحاد الأوروبي بنحو 13%، ليصبح 447 مليوناً. 

ويحمل الانفصال تداعيات اقتصادية خطرة، إذ سيتآكل نحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي لدول الاتحاد، ليصبح بعد الانفصال 13.5 تريليون يورو. 

كما ستنخفض ميزانية التكتل بنحو 12%، بعد أن تفقد بروكسل ثاني أكبر مساهم في الميزانية بعد ألمانيا.

ويهدد الخروج البريطاني بفرط عقد الاتحاد الذي بدأ يفقد جاذبيته، كما سيتأذي اقتصاده بعنف، لكن الخسائر البريطانية ستكون أكبر. 

وستتفاوت آثار الانفصال على أوروبا، من دولة إلى أخرى، وفقاً لطبيعة العلاقات التجارية مع بريطانيا. ويتوقع محللون أن تأتي هولندا وأيرلندا وقبرص، في مقدمة أكثر الدول تضرراً بالخروج البريطاني، أما الدول الأقل تأثراً، فشملت كلاً من رومانيا وإيطاليا وكرواتيا وسلوفينيا.

وفي بريطانيا، يحمل الانفصال تداعيات أخطر، إذ بحسب التقديرات، سيؤدي الانفصال الفوضوي إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7,6% على مدى 15 عاماً، بينما سينخفض في حال الاتفاق المنظم بنسبة 4,9%، وهو تأثير أيضاً كبير. 

ويتوقع أن تعاني البلاد من ارتفاع أسعار الأغذية والمنتجات الطازجة، التي يتمّ استيراد قسم كبير منها من الاتحاد، ما قد يفاقم من انهيار الجنيه الاسترليني.

ويتوقع بنك انجلترا المركزي تراجع الصادرات واضطراباً في سلاسل الامدادات، مع تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1% في الفصل الأول من عام 2021. 

كما سيتأثر قطاع صناعة السيارات، إذ يصدّر قسماً كبيراً من انتاجه إلى الاتحاد وتضمّ بريطانيا على أراضيها شركات مصنعة دولية مستعدة لإغلاق مقراتها.

قيود جديدة على سكان أوروبا وبريطانيا

يفرض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي اعتباراً من الأول من ينايرالمقبل، قيوداً جديدة لم يألفها السكان من الجانبين، الذين اعتادوا على التنقل بحرية من دون عوائق بغرض السياحة والسفر والعمل أو الدراسة، إذ تعتزم دول الاتحاد معاملة مواطني المملكة المتحدة باعتبارهم من «دولة ثالثة»، كما ستعامل بريطانيا مواطني الاتحاد باعتبارهم «أجانب»، بخلاف من لديهم أوراق إقامة في البلاد.

وعلى الرغم من اتفاق الطرفين على مبدأ الإعفاء المتبادل من التأشيرة، لكن الانفصال سيترك تداعيات على حركة السياحة من الجانبين، إذ سيكون على السياح البريطانيين التحلي بالصبر عند دخول دول الاتحاد، حيث ستقتصر إقامتهم فيه على 90 يوماً كحد أقصى.

وبالمقابل، لن يتمكن الأوروبيون من دخول الأراضي البريطانية ببطاقة الهوية كما اعتادوا، بل سيتعين عليهم استخدام جواز سفر، لكن يمكن أن يقيموا فيها لمدة تصل إلى ستة أشهر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"