المعرفة كسلطة في المجال الإسلامي

00:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

أدرك حامل المعرفة في المجال الإسلاميّ التّاريخيّ، محدّثًا كان أو فقيهًا أو متكلّمًا أو كاتبًا أديبًا، أنّه يحتاز رأس مال رمزيًّا – بلغة اليوم – وأنّ هذه المعرفة/ رأس المال تمثّل، في حدّ ذاتها، سلطة. ولم يكن يَعْسُر عليه أن يعرف أنّها سلطة، وتمنحُه سلطة، في مجتمعٍ أميّ قَلَّ من يملك أن يقرأ فيه، وفي مجتمعٍ منشدٍّ إلى سلطة الدّين متجسِّدةً في نصٍّ هو القرآن الكريم. غير أنّ عِلْم حامل المعرفة هذه بأنّ معرفتَه تمثّل سلطةً، بل سلطة موازية لسلطةٍ أخرى هي السّلطة السّياسيّة، كثيرًا ما اقترنت، عنده، بالنّظر إليها بوصفها سبيلاً إلى الاستفادة من عائداتها غير المعرفيّة، وسبيلاً إلى التّقرّب إلى السّلطة (السّياسيّة) والاستفادة من تقديم الخدمة إليها.

 المعرفةُ، إذن، سلطة بمعنييْن: بمعنى أنّها تسمح لحاملها، في مجتمعٍ إسلاميّ تغشاه الأميّة، أن يكون وسيطًا بين المؤمنين وتعاليم كتابهم، لأنّه وحده يفُكّ حرفه ويفهم أحكام الدّين فيُبلّغها إليهم. والناس أو «العامّة» هم، بالذّات، مَن يرفع من قيمة عِلْمِ العارف بالدّين ويجعل منها سلطة ومنه صاحبَ سلطانٍ عليهم. ثمّ بمعنًى ثانٍ أنّها (المعرفة) وسيلةٌ للتّرقيّة الاجتماعيّة والتّكسُّب وتحصيل الوجاهة والاقتراب من رجالات السّلطة السّياسيّة. وهكذا إذا كان حامل المعرفة واحدًا، فإنّ الحَدّيْن الآخرين اللّذين تصير معرفتُه معهما سلطةً هما: «العامّة» والأمير أو خاصّته على نحوٍ أوسع، وهو يسعى إلى خطْب ودٍّ الواحدِ منهما أو هُمَا معًا لأنْ لا سلطة له من دون ذلك.

 كانت مألوفة جدًّا تلك السّلطة التي ظلّ حَمَلَةُ العِلم الدّينيّ يكتسبونها من العامّة في البيئات الاجتماعيّة والدّينيّة (المساجد) التي كانوا يمارسونها فيها، ولم تكُنِ السّلطةُ لِتُنَازِعَهُم، يومًا فيها ما داموا يشتغلون بدينيّات النّاس وحاجاتهم إلى العِلم بالأحكام الشّرعيّة المتعلّقة بها. بل كثيرًا ما اعترفت لهم السّلطة بفائدة علمهم فلجأت إليهم للاستشارة والإفتاء. غير أنّ سلطتَهم على العامّة سرعان ما تصبح مدعاةً إلى مِحَن يُمْتَحَنون فيها، حين يَعِنُّ لمن يَعِنّ له فيهم أن يركب صهْوة تأييد العامّة ومناصَرتهم، فيحرّضها على السّلطان، أو يدفع برأيٍ يضع سلوك السّلطانِ تحت قاعدة الاحتساب. 

ويشهد تاريخ الإسلام على سوابق عدّة من الصِّدام بين حَمَلَة العلم الدّينيّ والسّلطة، نتيجة مَيْل الأوّلين إلى الذّهاب بسلطانهم على العامّة حدَّ الاصطدام بالسّلطان السّياسيّ والحدود التي يرسمها لحرّية حركة «رجال الدّين» في المجتمع. وما سابقةُ ما سمِّيَ، في الأدبيّات التّاريخيّة باسم محنة ابن حنبل وأصحابه – خلال عهود المأمون والمعتصم والواثق – إلاّ واحدٌ من أمثلةٍ كثيرة على ذلك الصّدام العنيف الذي حصل بين السّلطتين في تاريخنا.

 ما من شكٍّ في أنّ الفقهاء الذين استقرّ رأيهم على الاعتراف بالسّلطة القائمة، أيًّا يكن القائم على أمرها، وعلى مساندة الأمير ودعوة النّاس إلى الائتِمَام بإمامته والجهاد وراءه، إنّما كانوا يراجعون موقفًا فقهيًّا قديمًا قاد إلى الاصطدام بالسّلطة، ويراجعون معه تجربة الفتنة التي عصفت بوحدة الجماعة الإسلاميّة، بعد إدراكهم حاجة الاجتماع الإسلاميّ إلى السّلطة والدّولة. ولكن، ما من شكٍّ - أيضًا- في أنّ كثيرًا منهم وجدوا في هذا الاعتراف سبيلاً إلى التّقرُّب منها ونيْل حظوتها وغُنْم منافع من ذلك. لقد أصبحت العلاقة بها، عندهم، سبيلاً إلى التّرقيّ الاجتماعيّ واكتساب الوجاهة شأنهم في ذلك شأن كتّاب الدّواوين والآداب السّلطانيّة. ومعنى ذلك، أيضًا، أنّهم أيقنوا أنّ رأس المال الذي يحتازونه – وهو العلم الدّينيّ – شديد الإفادة والعوائد من طريق العمل مع السّلطة وفي كنفها، تمامًا مثلما هو كذلك عند غرمائهم من الكتّاب السّلطانيّين.

 نظرة الفقهاء، كما كتّاب الدّيوان، إلى المعرفة بوصفها بضاعة، هو ما نَزَلَ بمرتبيّة العلم من رتبة السّلطة الرمزيّة إلى مرتبة أداة التّكسُّب. أمّا سلطة هذه المعرفة في عيون الجمهور فتناقصت مع الزّمن. لم يكُنِ الكتاب السّلطانيّون، أصلاً، يأبهون ب«العامّة»، ولا هُم توجّهوا إليها بالخطاب؛ فوجهة خطابهم كانت دائمًا إلى الأمير والخاصّة، بل هم كثيرا ما احتقروا العامة وحذّروا الأمير منها. وبالمثل، ما عاد مستغربًا أنّ الفقهاء الذين كانوا يستمدون قوتهم – في نظر السّلطة – من الجمهور الذي كان يمحضهم التّأييد، لأنّه تحت سلطان معرفهم، أصبحوا هُم أنفسُهم يمجّون العامّة ويُزْرُون بها في كتاباتهم الزّاخرة بعبارات الدّهماء والأوباش والأراذل وما في هذا المعنى؛ ذلك أنّ السّلطة الوحيدة التي باتت تُؤْتَى من بابها العوائد، عندهم، لم تعد سلطتهم على العامّة بل سلطتهم عند أهل السّلطة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"