عادي

«الليالي العربية» ليست كافية

23:55 مساء
قراءة 5 دقائق
1

القاهرة: مدحت صفوت

مع دخول البشرية مرحلة الحداثة، خاصة في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت الحركات الثقافية والفنية في نبذ التقاليد ومهاجمة المواقف الكلاسيكية، وزعزعة الثوابت الفنية والآليات المستقرة، بحثاً عن منابع الجدة والتجريب، وكان من بين أدوات الأخيرة استدعاء التراث الشعبي ليست لمحاكاته ولا للتعبير عنه، وإنما للتعبير به.

التعبير بالموروث عامة، والشعبي خاصة، كان الحلقة الثالثة في سلسلة تعامل الحداثيين العرب مع التراث، والتي بدأت ببعثه ومحاكاته ومعارضته دون تجاوزه، كما نطالع في ديوان محمود سامي البارودي، ثم حلقة التعبير عن التراث وهي ما نتلمسها في ثلاثية نجيب محفوظ التاريخية «رادوبيس، وعبث الأقدار، وكفاح طيبة»، أو في مطولة شفيق معلوف «عبقر» التي عبر من خلالها عن الموروث الأسطوري وما يتعلق بشياطين الشعر.

ثم الحلقة الثالثة التي تحول فيها الكاتب إلى استلهام الموروث وبعثه بتخطي الزمن؛ أي عصرنته، للانطلاق من جديد نحو مرحلة مغايرة وجديدة أيضاً، ما يعني العودة للموروث لإضاءة الحاضر والمستقبل معاً، حتى وإن فاض هذا الموروث بالتصورات الخرافية.

أسباب فنية سياسية

الحفر في التاريخ الأدبي يكشف أن الأسباب التي دفعت بالحداثيين العرب إلى التعامل مع الموروث في شقيه الخاص والشعبي، لم تكن جميعها فنية، وإنما تنوعت بين الفنية والسياسية. فالرواية العربية يرجع اتصالها بالموروث الحكائي (ألف ليلة وليلة تحديداً) إلى أواخر القرن التاسع عشر، ومراعاة الروائيين الأوائل ذوق القراء حينذاك، فألفوا نماذج سردية أولى تقليداً لكتاب الليالي وحكاياته، وخضعت الأحداث للمغامرات والغرائب والعجائب والمصادفات والاستطراد والتوسل بالحيل لبلوغ الغايات والاستشهاد بالشعر، وتأثرت الشخصيات بأبطال الليالي فبدت إما خيّرة وإما شريرة، لا يؤثر فيها الزمن ولا البيئة.

وتبرز هنا محاولة رفاعة الطهطاوي الذي لم يكتف بتحوير عنوان رواية الفرنسي فرانسوا فنلون وتعريبه، مستخدماً أسلوب السجع «وقائع الأفلاك في مغامرات تيليماك»؛ بل ملأ الرواية بقصص عدة من الليالي ومن الأمثال والحكم الشعبية العربية وفق حامل جمالي بنائي ينهج أساليب المقامات.

وفي الوقت الذي كانت فيه حاجة الحداثيين العرب إلى الموروث الشعبي كرغبة في خوض غمار التجريب الفني، وإثراء النص الروائي بما هو أصيل وثابت ونموذجي، ضمن تموضعات وتمظهرات متنوعة، بغية دفع القارئ إلى إعادة النظر في التراث الشعبي، كان بعضهم ينحو لتشكيل «جمالية سياسية» أيديولوجية، خاصة في ظل تصاعد حركات التحرر الوطني، فكانت العودة إلى معين الموروث الشعبي، لإضفاء جمالية أدبية وفنية على التحركات السياسية والشعبية المرتبطة بالتحرر، ككتابات جورجي زيدان، ومحمد حسين هيكل، فيما يعد عنوان رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، إشارة إلى جمالية التلميح التراثي ورواجه السياسي.

أغراض شتى

وكتاب السرد إن اجتمعوا على الموروث الشعبي كبنية دلالية بالغة الثراء والتنوع، إلا أنهم قد اختلفوا في استخدامه، فمنهم من رأى فيه بنية دالة تتعامل مع مسألة الهوية وتشكيلاتها المتعددة، وما يعتريها من تحديات، إلى جانب ما يتم كشفه من حين لآخر من لحظات إنسانية دالة تحتوي على مكونات جديدة في نسيج الهوية، ومنهم من استخدمه في تأصيل قضايا داخلية وخارجية؛ إذ يستدعي الكاتب الموروث ليضع تلك القضايا في بنيتها الأشمل، ويتبع خصائصها لصناعة كيان موازٍ للحاضر، عبر تقنيات وآليات تعددت من كاتب لغيره، ومن نص إلى آخر.

ونرى أن عملية الكشف عن جوهر العودة للمورث الشعبي عند كتاب السرد، وبيان قدرة الأعمال السردية على طرح الأسئلة الصحيحة المتعلقة بحياتنا وقيمنا ومفاهيمنا للأشياء وعلاقتنا بالآخر، بعيداً عن الإجابات المسبقة التي نمتلكها من أزمنة وعصور قديمة، ونصر على ملاءمتها لواقعنا الحالي دون مراعاة لشرطي الزمان والمكان، نراها أمراً ملحاً وضرورياً لفهم السرد المستند إلى الموروث الحكائي الذي أصبح يمثل ظاهرة في الوقت الراهن.

مكانة مرموقة

وبالطبع كان في قلب الموروث الشعبي المستدعى، كتاب الليالي (ألف ليلة وليلة)؛ المؤلف الذي حظي بمكانة مرموقة في الآداب العربية والعالمية، وتأسست على حكاياته أعمال إبداعية في المسرح والرواية والموسيقى وغيرها.

ومبكراً اشتغل نجيب محفوظ على إعادة تدوير حكايات الليالي، في روايته «ليالي ألف ليلة» التي أقام بنيتها السردية على البنية العامة للكتاب التراثي، حتى جاءت الحكايات الداخلية في الرواية على غرار حكايات الليالي القديمة، فقصة «صنعان الجمالي» عند محفوظ مثلًا، تتقاطع مع حكاية «التاجر والعفريت» التي روتها شهرزاد.

ومن نجيب محفوظ إلى إميل حبيبي الذي وظف حكايات البحث عن الكنز؛ الثيمة الرئيسية في «ألف ليلة وليلة» ضمن روايته الشهيرة «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، ليستفيد من إطار الحكاية لا الحدوتة ذاتها، وتبدو في نظر البعض رحلة البحث عن الحقيقة.

كما نهل المؤلفون من البنية العامة للكتاب التراثي، مثل المغربي مبارك ربيع «بدر زمانه»، والسعوديتين رجاء عالم في «طريق الحرير» و«سيدي وحدانه»، وزكية القرشي في «ألف امرأة لليلة واحدة».

واستكمالًا لما لم تروه شهرزاد في لياليها، يكتب واسيني الأعرج رواية «رمل الماية.. فاجعة الليلة السابعة بعد الألف»، متجهاً نحو غرض أيديولوجي وهو الثورة على السلطة، وتصبح الفاجعة هي العاصفة التي اجتاحت «قصر السلطة وأبادته عن آخره». أما منصورة عز الدين فتنبش عما نسي التدوين أن يذكره في رواية «جبل الزمرد»، لتأكيد مصدرية الواقع التاريخية أو تأكيد أسطورية المصدر للواقع المعيش.

مصادر القص

«ألف ليلة وليلة» ليست كافية لينهل منها الكتاب العرب، فحضور الموروث السردي الشعبي بأشكاله كافة، يمثل ظواهر فنية لا تقل أهمية عن الاستفادة من الليالي، لنقل إن الكتّاب العرب المعاصرين عملوا على توظيف جل ما يمكن توظيفه من موروث، فجمال الغيطاني دخل في عمليات تناصٍ مركبة المستويات مع ما ورد من تراث شعبي في «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس خاصة في روايته «الزيني بركات»، ليتجاوزه إلى إعادة إحياء الأساليب اللغوية القديمة المعبرة عن روح العصر بكلام الأوائل، وهو ما نتلمسه أيضاً في «السائرون نياماً» لسعد مكاوي، و«حدث أبو هريرة قال» لمحمود المسعدي.

واستثماراً لمصادر الحكي الشعبي، سار الروائي محسن يونس في روايته «ما تبقى من بدايات بعيدة»، على دربه الكتابي في القدرة على نسج خيال مثير، ولغة قادرة على مهمة التخييل، وهو ما يتكرر أيضاً في رواية «منام الظل»، لكن المؤلف في الرواية الأولى يدمج بين الواقع المعيش والخيال الأسطوري. وعلى الرغم من أن الرواية كتبت بعد يناير/كانون الثاني 2011، واستلهاماً لما شهده العالم العربي حينذاك، لكنها ليست رواية غضب، ولا تنتمي أحداثها إلى الراهن بالمعنى المباشر، وتتسم اللغة بالمشهدية، وربما ينسى المتلقي في مواضع كثيرة «الأحداث الواقعية» لينشغل بفترات تاريخية متباينة بدءاً من وقت يزيد بن معاوية، وينتقل مع السرد الموسوم بالسحرية والمصاب بالواقعية معاً، لا أقول واقعية سحرية، ليجعل المتلقي يرى «آل زمش»، شخوص النص الروائي، ويلمسهم، وعلى الرغم من جرائمهم فهم من لحم ودم ورؤى وتصورات وآثام وخطايا.

ظواهر فنية لا نهاية لها في الموروث السردي

استلهم الراحل خيري عبد الجواد «عجائبية القصص الشعبي» بعيداً عن الليالي، غارفاً من موروث الحارة المصرية وحكاياتها في مجموعته «حرب أطاليا». وفي مسار توالد الحكايات ينسج الروائي والقاص طارق إمام مجموعته «مدينة الحوائط اللانهائية»، لا ليتناص مع حكايات شعبية على نحو جلي، بقدر ما يعمد إلى خلق خيال يتقاطع مع الخيال الشعبي؛ أي خيال مفتوح في مكان بلا تحديد جغرافي وبلا مواقيت دقيقة. فالزمن مرتبط بالطبيعة، شروق الشمس وغروبها، وعلى الرغم من أنه يستهل المجموعة بعبارة «بلغني» التي تشير إلى «بلغني أيها الملك السعيد»، فإن المتلقي يدخل إلى عالم مستقل، يتشابه ولا يتطابق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"