البحث العلمي والنظام التعليمي

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

ليست صناعة البحث العلمي مما يشبه غيرها من الصناعات التي يمكن بلداً ما، أن يحدثها فيه؛ بل هي صناعة من نوع خاص وتحتاج إلى شروط خاصة وسياسات خاصة. وليس موطن الممايزة بينها وغيرها من الصناعات في أن اعتمادها يقوم على الباحثين والكفاءات العلمية، لا على الفننين أو التقنيين واليد العاملة، وأن هؤلاء ليسوا متاحين بأعداد وافرة فحسب؛ بل موطنها الرئيسي في أنها الصناعة التي لا يمكن أن تستورد من خارج، أو أن يلجأ فيها إلى الخبرة الأجنبية أو أن يعتمد فيها على تلك الخبرة: تكويناً وتشغيلاً وإنجازاً. إنها من نوع الصناعات المرتبطة بالأمن القومي التي يقع الحرص الشديد فيها على أمن المعلومات (المعرفة)، والتي يفترض ألا يعمل في برامجها الأجانب؛ بل لعلها في هذا أخضع للأمن القومي من الصناعة العسكرية نفسها؛ هذه التي يمكن أن يشتغل ببعض برامجها خبراء أجانب في نطاق مشاريع للتعاون المشترك.

وعليه، لما كان شرط قيام برامج البحث العلمي أن تكون برامج وطنية موجهة من السياسات العليا ومصروفة لخدمة أهداف عليا، استتبع ذلك أن إقامتها وتطويرها لا يكفيه فقط، إنفاق رسمي عليها؛ بل تجنيد الكفاءات العلمية الوطنية للعمل في تلك البرامج، وتمتيعها بالإمكانيات والوسائل المادية التي تيسرها لها ذلك العمل. وليس معنى هذا أن العاملين في برامج البحث العلمي في دولة ما، عليهم أن يكونوا منقطعي الصلات عن غيرهم من العاملين في نظائرها في دول أخرى، فلقد تكون برامج البحث مشتركة في حالات من التنسيق وتبادل الخبرة، غير أن أكثر إنتاجهم ينبغي أن يتوخى مبدأ الأمن العلمي بما هو شرط رئيسي لتوظيف نتائج البحث العلمي في برامج التنمية الوطنية، وهو هدف ممتنع التحقق مع وجود خبرات علمية أجنبية عاملة في برامج البحث العلمي.

لذلك ليس من مورد لقطاع البحث العلمي والتطوير غير المورد الذاتي، وليس من مورد ذاتي غير التعليم والتعليم العالي، حيث الكفاءات العلمية المتخرجة في  الجامعات والمعاهد العليا، هي المادة التي تكون الجسم العلمي العامل في برامج البحث العلمي. 

ولقد تلجأ الدولة في الأكثر، إما إلى استجلاب كفاءاتها العلمية الوطنية المتخرجة في الجامعات والمعاهد الأجنبية، لاستدماجهم في مشروعات البحث العلمي، أو إلى الاستعانة بكفاءات علمية أجنبية، تكونت في جامعاتها، ولكن بعد تجنيسها وتوطينها (على مثال ما تفعل دول الغرب مع خريجي جامعاتها من غير مواطنيها).

من البين  إذن  أن نهضة البحث العلمي في أي بلد تستمد شرط إمكانها من نهضة النظام التعليمي فيه، والتعليم الجامعي على وجه الخصوص، أعني من جودته وتناسبه والمعايير الدولية في هذا الباب، ومن نجاعة مردوده المعرفي (مدى قدرته على إنجاب عقل علمي منتج). 

والبحث العلمي بطبيعته، يبدأ من نقطة أولى هي التأهيل العلمي العالي؛ التأهيل الدافع إلى لحظة الإبداع والإنتاج. وهذا لا يكون أو يتحصل إلا من نظام تكوين جامعي رفيع لا يعاني نقصاً أو شوائب في برامجه ووسائل التكوين. لا عجب  إذن  إن كانت الدول المهجوسة باستراتيجيات البحث العلمي، المدركة لمكانته الحيوية في منظومة الإنتاج والتنمية، تُبدي الحرص الشديد والمستمر، على تطوير منظوماتها التعليمية وتحديثها، وعلى إدخال الإصلاحات الدائبة على أنظمة التكوين والتأهيل العليا فيها؛ لأن تلك سبيلها الوحيدة إلى تغذية برامج البحث العلمي فيها بالأطر والكفاءات العاملة.

هنا بيت القصيد في البحث العلمي في الوطن العربي. ليس مأتى معاناته من قلة الاحتفال به في السياسات العليا وضعف الانتباه إلى مكانته الاستراتيجية في منظومة التنمية فقط، ولا هي من شح الموارد المالية المخصصة للإنفاق على برامجه فقط، وإنما هي  إلى ذينك السببين  من ضعف المورد الذاتي من الكفاءات نتيجة لتخلف بنيات المنظومات التعليمية والجامعية العربية عن نظيراتها في الدول الكبرى، الآخذة باستراتيجيات التعليم والبحث العلمي. 

والطامة الأطم أن الكم غير الكافي من الكفاءات العلمية، المتخرجة من الجامعات والمعاهد العربية، لا يجد طريقه في معظمه، إلى برامج البحث العلمي (المحدودة)، وأكثره يأخذ طريقه إلى الخارج ليستفاد منه في الإنتاج والخدمات والتكوين والبحث العلمي. أما من تأهل علمياً في الجامعات الأجنبية، من الطلاب، فيبقى معظمه هناك حيث تكون؛ لأن بلاده العربية لم توفر له للأسف الشديد، بنيات استقبال ملائمة تستفيد من خبرته في برامج البحث العلمي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"