زيارة إلى بهاء طاهر

01:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السناوي

تحت وطأة تقادم السنين وآلام المرض المبرحة صارح بطل قصة «بهاء طاهر» الجديدة نفسه بأنه قد «شاخ فلا تكابر»، «عاند من تطيق له عناداً».

«ذلك الوخز الحاد في الساق قرب الفخذين يأتي ثم يختفي، في الحقيقية يأتي ثم يبقى، لكنه أحياناً ينساه، الآن صعب أن ينساه. ربما لأنه سار كثيراً كي يصل إلى هذا المكان. ذكريات يا فندم!».. «ابتسم في سره مرة أخرى.. أي ذكريات يا أستاذ وأنت نفسك أصبحت ذكرى؟».

 في ذلك النص القصصي البديع شيء من تجربة الأديب نفسه مع المرض وآلامه، التي أبعدته لسنوات طوال عن المحافل الثقافية، دون أن تكوّن تقريراً طبياً عن حالته الصحية.

بعد اثنتي عشر سنة أطل علينا «بهاء طاهر» من جديد بقصة قصيرة جديدة عن «الحب المختلس» وحيرة الإنسان أمام معنى حياته، ما هو حقيقي وراسخ في الوجدان بالحنين وما هو عابر لا يستحق التوقف عنده بالتذكر.

«هل سيأتي وقت ينسى فيه كل شيء؟ حتى نوال؟ فماذا يبقى الأفضل أن يرحل قبل ذلك».

تبدو قصته الجديدة «نوال»، التي نشرت قبل أيام على صفحات جريدة «الشروق»، كما لو أنها مقاربة جديدة أكثر حزناً مما تبدى في آخر قصصه: «لم أعرف أن الطواويس تطير»، التي نشرت عام 2009 على صفحات جريدة «العربي».

 سألته: «هل نبرة اليأس من طبيعة الدراما أم تعبير عما يجيش بداخلك؟».. وأخذت أتلو على مسامعه المقطع الأخير: «نظرت نحو الطاووس المأسور، الذي كانت بعض ريشاته الملونة تبرز من ثقوب الشبكة وهو ينتفض، وقلت لنفسي وأنا أنصرف يا طائري العجوز أشباه عوادينا». الكلمتان الأخيرتان لأمير الشعراء أحمد شوقي، أي أننا نشبه بعضنا الآخر.

 قال: «النص عن المقاومة لا اليأس وأرجوك ألا تقلق».. ثم «لا تنس أن لا شيء يفوق جمال الطواويس غير قبح أصواتها».

ثنائية اليأس والمقاومة بدت أكثر حضوراً في «نوال»؛ حيث الحياة تكاد تتلخص فيما تبقت في ذاكرته من مشاعر قديمة لا تغادره.

«كان دبيب النمل في ساقيه يتحول بسرعة إلى لسع النحل. أراد أن يصرخ، لكنه همس وهو ينظر أمامه مخاطباً البحر: ساعدني يا صديقي. ساعديني يا نوال. ولكن دموعاً نزلت من عينيه ولم يعد ير البحر.

 أحنى رأسه وغمغم وهو يقبض على الحاجز ويتشبث به: كله يهون». إنه الألم الإنساني، والذاكرة التي تعني الحياة على الرغم من قسوتها.

 «نوال» في توقيتها ورسائلها تعليق بلغة الأدب على ما صرح به قبل أيام الدكتور صلاح فضل رئيس مجمع اللغة العربية، من أنه لم يتم ترشيح «بهاء طاهر» ل«جائزة نوبل في الآداب» لأنه يعيش في عزلة تامة ولا يرد على أية اتصالات هاتفية.

 لم يكن يصح أن يصدر مثل هذا التفسير عن ناقد أدبي كبير، فمثل هذه الجوائز تمنح بالجدارة الأدبية وحدها لا بشهادات طبية معتمدة.

«بهاء»، لا يخفي أمراضه ولا يتستر على آلامه، لا تستهويه السياسة بمعناها الحزبي أو المباشر، لكنه لا يتورع عن المشاركة في أي عمل وطني ملتزماً بفكرة جوهرية تسكنه عنوانها: «مسؤولية المثقف».

 هكذا مضى متكئاً على عصاه إلى ميدان التحرير وشارك بحماس شاب في جميع الفعاليات التي جرت قبل يناير، وبعدها من «كفاية» إلى اعتصام المثقفين في وزارة الثقافة الذي كان رمزه الأول ضد «أخونة» الثقافة المصرية.

 من فرط التواضع في كلماته وتصرفاته يلح عليك السؤال مرة بعد أخرى: هل يدرك هذا الرجل أن قامته لا تضاهيها قامة أخرى لأي أديب عربي آخر على قيد الحياة؟

استوعب الدرس مبكراً من أستاذيه والدرس وافق طبيعته المتأملة التي تميل لطلب السلام النفسي. غير أن ذلك كله لا يعنى أن من ساروا على هذا الدرب لا يعرفون قدر أنفسهم أو قيمة ما أسهموا فيه في تاريخ الأدب العربي الحديث.

في عالمه الروائي انعكاس لعالمه الحقيقي، فلسفته في الحياة وأحلامه المجهضة وتجاربه في المنفى.

 قضيته الأساسية: أزمة الثقافة والمثقفين. الأدب لا يكون عظيماً إلا بقدر أن يصدر من مواهب تعرف كيف تمزج الخاص والعام، تلتقط ما هو عميق بين ركام التفاصيل الصغيرة بحثاً عن معنى أو قيمة أو قضية.

 على الرغم من محورية أزمات المثقفين في مجمل أعماله إلا أنها لا تلخص عوالمه، وأي أديب كبير لا تلخصه قضية واحدة ولا يحتويه عالم واحد، ولا تكفيه زيارة واحدة إلى إرثه الأدبي الرفيع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"