الطائفية مصنع الأزمات السياسية

00:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

لم يشهد لبنان على حال من السوء والانحطاط في أوضاعه العامة كما يشهد عليها، اليوم، في تاريخه برمته. حتى في حقبة حربه الأهلية المديدة، أو الحروب الإسرائيلية عليه، لم تصل أوضاعه الاجتماعية والسياسية إلى هذا المستوى المهول من التردي الذي يرزح فيه منذ عام ونصف. ولقد آذنت التظاهرات الشعبية الاحتجاجية العارمة، التي اندلعت في السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2019، ببلوغ أزمته الطور الأقصى من الاستفحال الذي يسبق واحدة من الظاهرتين: الانفجار أو إفلاس الكيان. ومن الحظ الحسن أن الحركة الاحتجاجية أتت تَقرع جرس الإنذار قبل أن تقع الواقعة ويُعلن الإفلاس وتتداعى له التبعات والعقابيل في كل الصعد والأرجاء.

وأياً يكن رأي المرء في حركة 17 تشرين، والعوامل التي أفضت إليها، ومدى استقلالية قراره المدني عن التسخير السياسي الخارجي، أو عن شبكات الارتباط الطائفي الداخلي فإن الذي لا مِرية فيه أنها أفصحت، في وجه رئيسي من وجوهها، عن حالة صحوة مدنية تجاه الأخطار التي تُحدق بالمصير الاجتماعي والسياسي للبلاد إن استمرت السياسات الرسمية في أخذ لبنان نحو المجهول. ويكفي ما كان لشعاري محاربة الفساد ومساءلة رموزه، وإلغاء النظام الطائفي وإزاحة طبقته السياسية الحاكمة من مكانة مركزية في مجموع شعارا الحراك الاجتماعي، ومن تأثير بالغ في تأليف أوسع قوة اعتراض شعبية ضد الفساد والطائفية في لبنان. وهذا ليس تفصيلاً عادياً في تاريخ بلد قلما انعقد فيه إجماع سياسي على قضية سياسية أو اجتماعية تتحول إلى مشتَرك مدني جامع لا يُنقسم على حدود انقساماته الطائفية والمذهبية.

لم يضع حراك 17 تشرين الأول/أكتوبر حداً للأزمة. نجح في إسقاط حكومة عاجزة وائتلاف قائم على احتصاص (محاصصة) طائفي – مذهبي – حزبي لا توحّده خيارات جامعة. ثم لم تلبث الأزمات – أثناء الحراك وبعده – أن تناسلت من بعضها ثم استفحلت أكثر. وهي بلغت ذراها بالأزمة المالية التي أودت بقيمة الليرة ونزلت بها إلى أَوطَأ حال بلغته في تاريخ لبنان، حتى بات سعر ورقة الليرة أغلى من قيمة الليرة، والأنكى أن الأزمة الاقتصادية والمالية ألقت بذيولها على القسم الأعرض من اللبنانيين الذين تم إفقارهم في أيام معدودات وضرب أكثرهم في لقمة عيشه. وقد وضع هذا لبنان ويضعه أمام امتحان سيادته الوطنية كبلد ودولة؛ بحيث بات عجزه عن الخروج من النفق واستيعاب أزماته ممراً نحو فرض الوصاية الخارجية عليه وعلى قراره الوطني، إلى حد تصرّف دول معه وكأنّها قوّة انتداب.

 ثم لكأن البلاد ليس فيه ما يكفيها من مشكلات حين تكالبت عليها جائحة كورونا وطامة انفجار مرفأ بيروت. ومع أن جائحة الوباء ضربت بلاد العالم من أقصائها إلى الأقصاء، إلا أن حصة لبنان من فواجعها لا تقاس. فلقد واجهها وهو ينزف اجتماعياً وسياسياً من أزمته، وبحكومة لم تستطع أن تتحصّل توافقاً عاماً حولها، أو أن تحفظ تماسكها أمام سيل استقالات وزرائها. بل هو واجه الجائحة بمجتمع لم يكن – من أسف شديد – متشبعاً بقيم الالتزام بأحكام الطوارئ الصحية ومقتضياتها من تباعد اجتماعي وإجراءات وقائية مناسبة، وكانت النتيجة هذه الأرقام المهولة من أعداد المصابين ومن الوفيات، التي لا تعادلها في الكُلفة والفداحة سوى النتائج الاجتماعية الكالحة للجائحة؛ ممثلة في التفقير والتهميش الواسعين نتيجة توقف الدورة الاقتصادية والآثار البليغة للأزمة المالية ومخلفات انفجار مرفأ بيروت.

 ما كان يمكن لمثل هذا التلاحق المطرد للأزمات العاصفة أن يواجه إلا بتوافق وطني على رؤية استراتيجية لإخراج لبنان من النفق الكالح الذي دَلَف إليه منذ عام ونصف. غير أن التقدم نحو اجتراح مثل هذه الرؤية ظل ممتنعاً إلا من طريق العبور من ممر إجباري – واختباري للتوافق الوطني – هو الاتفاق على تأليف حكومة إنقاذ وطني. لكن هذه، التي نشأ إمكانها مع استقالة حكومة حسان دياب وخلوص الاستشارات النيابية إلى تكليف الرئيس عون السيد سعد الحريري بتأليفها، ما زالت معلقة على صليب الانتظار السياسي والتجاذب الدائم بين الفرقاء إياهم: الذين انفجرت الحركات الاحتجاجية في وجوههم في خريف عام 2019.

 ما الذي يمنع تشكيل الحكومة حتى الآن؟: يتساءل كثيرون في لبنان وخارج لبنان؛ هل هو الصراع على حصص التمثيل والمشاركة وحجومها، هل هو انتظار متغيرات إقليمية ودولية؛ هل لوجود ڤيتو على التأليف من مركز في الداخل اللبناني أو في الخارج؛ هل لوجود صراع، في الخفاء، على مبدأ «الثلث المعطل» أو «الضامن»... إلخ؟ 

يختلف فرقاء الطبقة السياسية في لبنان على كل شيء. شيء واحد يجتمعون عليه؛ إخفاء عِلة النظام السياسي ومنبع أزماته: الطائفية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"