الديمقراطية الثقافية

00:18 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السناوي

تكتسب مئوية «ثروت عكاشة» رمزيتها من قدر ما تلهمه من أسئلة حقيقية حول مستقبل الثقافة في مصر. وإذا لم نطلّ على المستقبل فإن الاحتفاء بالمئوية يقارب مراسم العزاء.

بالدور فهو الرجل الذي ارتبط اسمه بأوسع عملية بناء ثقافي في التاريخ المصري الحديث.

وصادف اختياره أهله، فقد كان مهيأ أكثر من غيره، رغم خلفيته العسكرية، لتولي هذا الدور، فهو أحد الموسوعيين الكبار في الفنون والثقافة.

 وفي تجربة «يوليو» قضايا وتعقيدات متداخلة بين العسكريين والمثقفين تستحق التوقف عندها بالبحث والدرس. بينها التنشئة العسكرية ل«جمال عبدالناصر»، ورفاقه، ودورها لا يمكن استبعاده، أو غض الطرف عنه، في تكوين شخصياتهم من حيث احترام التسلسل القيادي، والتزام قواعد الانضباط.

 أساسيات العمل العسكري تختلف من حيث طبيعتها مع ما درج عليه العمل الثقافي من تنوع وتقبّل للخلاف في الرأي كقيمة بذاتها. وتناقض طبيعة العملين أسس  أحياناً  إلى صدامات مكتومة. وبينها أنهم لم يكونوا على ذات درجة الثقافة والمعرفة والقدرة على التذوق الفني.

 وأية مراجعة لمذكرات «ثروت عكاشة» تثبت باليقين أن التصورات سبقت الإجراءات، والرؤى سبقت الأفعال. ولم تنشأ «الثورة الثقافية» من فراغ، ولا طرأت بالمصادفة.

اتسعت مساحة القراءة العامة بما هو جدير بالاطلاع عليه من فكر وأدب وإبداع لكتّاب مصريين. وازدهرت حركة الترجمة لإتاحة ما ينشر من فكر حديث في الغرب أمام القارئ بأرخص الأسعار. ونشأ جيل من المسرحيين العظام مثل «يوسف إدريس» و«سعد الدين وهبة» و«ألفريد فرج» و«محمود دياب» و«ميخائيل رومان» و«نعمان عاشور».

 وانتشرت قصور الثقافة في كل المدن، كأنها تلاحق التوسع في إنشاء المدارس والمستشفيات العامة. ونهضت حركة الفن التشكيلي، وأضيفت كلية جديدة للفنون الجميلة بالعاصمة الثانية الإسكندرية. وشهدت الأغنية الوطنية عصرها الذهبي  بتوصيف المايسترو «سليم سحاب».

 وأهم ما انطوت عليه «الثورة الثقافية» إتاحة حرية النقد والاختلاف. فلا إبداع يتأسس على تعليمات بما يكتب، أو لا يكتب.

كانت تلك مفارقة، حيث سمح في الإبداع القصصي والمسرحي بما لم يكن مسموحاً به على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون من نقد.

 ولم يُمنع حق عن أديب اختلف، ولا صودرت رواية انتقدت. ونشرت رواية «نجيب محفوظ» «أولاد حارتنا» كاملة على صفحات «الأهرام»، رغم الزوابع التي أثارتها.

 ونشرت في وقته، وحينه، روايات أخرى له انتقدت من دون مواربة أوجه خلل عدة في النظام الناصري. وسمح بعرض الشريط السينمائي «شيء من الخوف» عن رواية بالاسم نفسه ل«ثروت أباظة»، رغم الاعتراضات الرقابية التي تصورت أن «فؤادة» هي مصر و«عتريس» هو «عبدالناصر»، وأن الزواج بينهما باطل. ولم يوافق «عبدالناصر» على الاعتراضات الرقابية ف«نحن لسنا عصابة وإذا كنا كذلك لا نستحق أن نحكم أو نبقى».

على ذلك المنوال اتسعت مساحة النقد، وحريات التعبير في المجال الثقافي. وبطبيعة الحال حدثت مضايقات متكررة من سلطات رقابية، أو أمنية، اشتكى منها مبدعون، أغلبهم موالون للثورة، لكنها وجدت في النهاية استجابات في مركز القرار.

 هل كانت الديمقراطية الثقافية تنفيساً عن غياب تداول السلطة؟ وهل كانت الديمقراطية الاجتماعية بديلاً عن الديمقراطية السياسية؟

هناك من يعتقد أن مقايضة جرت في تجربة «يوليو» بين الحقوق الاجتماعية والحريات السياسية. وحديث المقايضة ينزع عن الثورة عمق توجهاتها الاجتماعية.

والذين يقايضون لا تعنيهم القضايا الكبرى والالتزامات الرئيسية بقدر استهداف البقاء في السلطة بأية صيغة، أو أية صفقة.

 ولم يكن ممكنا  في تجربة «يوليو»، أو في أي تجربة ثورية أخرى  إحداث أي تحول جذري في بنية المجتمع ما لم تتوافر سلطة قوية تحميه.

والوقوع بالكامل في فخ التوصيفات الجاهزة نفي بالمطلق لشرعية الثورة  أية ثورة، ينزع عنها إرادة التغيير وينزع في الوقت نفسه عن النظم التي أسقطتها استحقاق السقوط.

 في لحظات الانقلاب عليها كان إرثها التنظيمي معولاً في هدمها. ولم تكن مصادفة الحملة على الثقافة والمثقفين وإغلاق المنابر الثقافية مطلع سبعينات القرن الماضي عند تغيير السياسات. ولا كانت مصادفة أن المثقفين الذين انتقدوا التجربة من داخلها هم أول من هرعوا للدفاع عنها في لحظة الانقضاض عليها.

 والثقافة والإعلام قضيتان متلازمتان، كلتاهما تحتاج الأخرى لاستكمال أدوارها.  وفيما اتسعت حريات النقد والتعبير في الأولى، ضاقت بالثانية. وكانت تلك إحدى مفارقات بنية نظام «يوليو».

 الثقافة والديمقراطية قضيتان توأمان، كلتاهما تنهض بالأخرى. وساعدت الديمقراطية الثقافية في ضخ دماء فوارة بقلب مشروع «يوليو»، كما الديمقراطية الاجتماعية، غير أن غياب الديمقراطية السياسية نال من قدرته على حفظ نظامه، وتجديد نفسه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"