خير الدين حسيب.. عقيدة العمل

00:11 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالإله بلقزيز

إذا كان لخير الدين حسيب من عقيدة في الحياة غير عقيدته التي تربى عليها ومات عليها  وهي العقيدة القومية  فعقيدته العمل. رجل عمل بامتياز، كان على مكتبه، في مركز دراسات الوحدة العربية، يقضي الساعات الطوال، ساعات الدوام الرسمي اليومي الثمانية، وأخرى إضافية يقتنصها مساء وتمتد، أحياناً إلى منتصف الليل، وغالباً وحيداً أو مع سكرتيره. على أكوام أوراقه والملفات ينكب. يكتب ويكتب بلا توقف. قلمه بين أصابع يده الشمال وعلى العينين نظارة طبية. ومنذ توقف عن تدخين السيجار الكوبي، قبل عشرين عاماً، لم تعد ترى على مكتبه غير علب الدواء جنباً إلى جنب مع فنجان قهوة أو شاي.

 ليس في يوميات الرجل عُطل من نوع عطلة نهاية الأسبوع، فمعظم «السّبوت والآحاد» يقضيها في المركز. أما عطله السنوية فكناية عن أسفار عمل بين لندن والقاهرة وتونس وعمّان والرباط والجزائر. وفي أي عاصمة حل، لا بد للفندق الذي يقيم فيه من أن يتحول إلى خلية نحل، فتراه يطلق النفير في مفكري البلد وأكاديمييه للانتداء عنده، والبحث في هذا المشروع أو ذاك من تلك التي يحملها معه في حقيبته للتداول فيها مع أهل الاختصاص. وغالباً ما كان يشعر بالخيبة حين لا يلتقي من كان يبغي أن يلتقي به، على الرغم من حرصه الدائم على التحضير لأسفاره، وترتيب المواعيد في المكان والزمان والتوقيت. وإذا كانت المواعيد أفرادية لا جماعية، ما كان ليتردد في أن يضرب لزوار كثر (ستة أو سبعة) مواعيد تتدرج على مدار اليوم كله. وفي لقاءاته تلك التي لا تنتهي لا حديث يطيب له إلا في الشؤون العامة وشؤون الفكر والبحث العلمي والمشاريع العلمية لمركز دراسات الوحدة العربية.

 لا تخلو يومياته في المركز، أيضاً، من لقاءات، مواعيد مرتّبة، سلفاً، مع باحثين أو سياسيين أو شخصيات عامة، أو زيارات مفاجئة لمثقفين عرب صدف وجودهم في بيروت، أو لآخرين مشاركين في ندوة ما للمركز، من عشرات الندوات التي نظمها في كبرى فنادق بيروت (الكارلتون، البريستول، الكراون بلازا، لوروايال، الكومودور…). في مثل هذه اللقاءات، في بيروت وخارج بيروت، لا ترى خير الدين حسيب مكبّاً على أوراقه في مكتبه كعادته، أو حين يدعو لجنة الدراسات للانعقاد، أو اللجنة التنفيذية للمركز أو مجلس أمنائه للالتئام في دورة عادية أو طارئة. ما خلا ذلك يعاد الشعور أن يخامرك بألا حياة خاصة للرجل، ولا عادات في الحياة أخرى غير العمل والعمل. حتى حين يلم به مرض أو عارض صحي  على نحو ما تكرر في الأعوام الثمانية عشر الأخيرة منذ غزو العراق  يغالب المرض، بمكابرته المعهودة، ويلتحق بالمركز. أما حين كان يشتد عليه، كثيراً ويقعده عن الحراك  كما في الأعوام الخمسة الأخيرة من عمله في المركز (٢٠١٢  ٢٠١٧) فكان يؤتى إليه بالملفات في بيته ليعمل هناك.

 هكذا هو خير الدين حسيب كما عرفته وعشت معه لثمانية عشر عاماً امتدت من العام ١٩٩٩، حتى العام ٢٠١٧، بل هكذا كنت أراه قبل هذا التاريخ. هو والعمل صنوان، وله فيه طاقة وجَلَد أسطوريان. ربما يكون اشتد على غيره في العمل وكلفهم ما ليس لهم طوق وطاقة على حمله من أكلاف حين أرغمهم على المسير على إيقاعه هو. ولكن كان يشفع له أن أخذ نفسه بالشدة أضعاف ما أخذ غيره بها. ولقد كنت واحداً من الذين غفروا له صرامته لأنها من عدة العمل وعتاده، ومما لا يكون إنتاج ومنتوج إلا به. وحين سألته في الأيام الأخيرة  وقد اشتد به المرض والوهن في الصحة  سبب هذه النوبات المتعاقبة عليه من الاعتلال، أجابني بأن ذلك مأتاه من العطالة عن العمل، مستطرداً أنه ما تعود، طوال حياته، أن يعيش من غير عمل. حتى شيخوخته ضف عليها بالحق في الراحة، لأن الراحة، في عقيدته، رديف الكسل.

***

 أياً تكن ملاحظات المرء على نمط إدارة د. خير الدين حسيب لمركز دراسات الوحدة العربية، فالذي لا مرية فيه أنه أهاب حظاً عظيماً من النُجح في بنائه صرحاً علمياً متقدماً، على نحو تكرس به كواحدة من أرفع المؤسسات العلمية العربية ذات الألمعية الريادية في ميدان البحث العلمي، وذات السمعة والصدقية لدى المجتمع الأكاديمي في الوطن العربي والعالم، وذات الإشعاع الفكري والثقافي في المجتمع القارئ.

 ويكفي أن مئات من الدراسات التي أصدرها المركز: كتباً أو في مجلته «المستقبل العربي»، باتت اليوم في عداد أمهات المراجع في الفكر والثقافة العربيين. وليس ذلك بالشأن القليل. وإلى ذلك فإن عشرات الندوات التي عقدها، على مدار أربعين عاماً وفرت مساحات لقاء وتفاعل بين النخب الفكرية العربية من المشرق والمغرب العربيين، وقدمت مادة علمية وحوارية مميزة في أمهات القضايا التي تناولتها.

 وإلى المشاريع العلمية الضخمة التي أنجزها المركز، في عهد مديره خير الدين حسيب، كان للأخير شرف العمل على تأسيس منظمات علمية عربية متخصصة نظير «المنظمة العربية للترجمة»، و«الجمعية العربية للعلوم السياسية»، و«الجمعية العربية لعلم الاجتماع» ودعمها مالياً. ثم شرف تأسيس منظمات سياسية نظير «المؤتمر القومي العربي»، و«المؤتمر القومي الإسلامي»، وأخرى ذات طبيعة مدنية مثل «مخيم الشباب القومي العربي» و«المنظمة العربية لمكافحة الفساد»، وكان أميناً عاماً لبعضها أو رئيساً لمجلس الأمناء.

 أدى الفقيد دوره التاريخي بتفان وجسيم تضحيات، لأنه آمن بالرسالة التي يقوم بها والتزمها حتى اللحظات الأخيرة من عمره.. وسينصفه التاريخ: المحكمة العادلة الوحيدة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"