منظومة جنوبية ضد العولمة

00:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

لم تعد فكرة عدم الانحياز تمثل  اليوم  هدفاً جماعياً لدول الجنوب، أو هدف قسم منها مصرّ على حفظ استقلاليته وصونها من الاستباحة والإخضاع، وذلك لسبب في غاية الوضوح والبداهة: ارتفاع الأسباب الموجبة لسلوك نهج عدم الانحياز في العلاقات الدولية. لم يعد ثمة استقطاب أيديولوجي وسياسي عالمي، وقطبان يتنازعان على النفوذ والسيطرة ويميلان إلى استلحاق ما لا ينتمي إلى عالمهما من بلدان (جنوبية تحديداً)، حتى تستمر مشروعية فكرة عدم الانحياز، أو  قل  حتى تتبرر سياسة التئام دول الجنوب في تكتل عالمي تحت العنوان هذا. كان ذلك مبرراً في ما مضى؛ بل عُد من ضرورات الوجود والفعل، قبل أن تزول الحاجة إليه بزوال أسبابه والعوامل الداعية إليه؛ بل بتبخر فكرة عدم الانحياز عند معظم دول الجنوب التي أمست منحازة منذ عقود.

ليس معنى هذا أن الحاجة إلى تكتل دول الجنوب في منظومة عمل عالمية تضامنية، ارتفعت، وانتفت أسبابها ودواعيها؛ بل هي  على العكس من ذلك تماماً  باتت حاجة ماسة وملحة، ولكن بعيداً من فكرة عدم الانحياز، قريباً من فكرة المصالح والحاجات الجديدة للجنوب التي تولدت من حقائق التطور الخارجة من رحم التحولات العالمية العاصفة التي كان العالم، برمته، مسرحاً لها منذ ثلاثين عاماً مضت. 

وإذا كان من مقتضيات أي برنامج عمل لدولة أو مجموعة من الدول متكتلة أن يتحدد، وتتشكل أهدافه، في ضوء التحديات التي تواجه تلك الدولة/ الدول (والتي تفرضه، بالتالي، كبرنامج عمل دفاعي أو بنائي)، فإن آكد تلك التحديات  اليوم  بالنسبة إلى دول الجنوب، هو تحدي العولمة: هذه التي تعادل اليوم  أو تفوق  الاستقطاب الدولي بين العظميين في حقبة الحرب الباردة، والتحدي هذا هو الذي يفرض على دول الجنوب، اليوم، الانتظام في منظومة جنوبية جديدة تحت سقف برنامج عمل سياسي وتنموي وتعاوني قصد الدفاع عن مصالحها الحيوية المشروعة المتضررة من أحكام العولمة ونتائجها أبلغ الأضرار.

إن استباحة السيادات الاقتصادية والسياسية والقانونية باسم التجارة الحرة، و«حق التدخل»، وحاكمية القوانين الدولية، وسلطان أحكامها على أحكام القوانين الوطنية، لا تلحق أي ضرر بالقوى العولمية الكبرى؛ لأن هذه هي من يتوسل الأدوات تلك ويسخرها خدمة لمصالحها القومية. وحدها بلدان الجنوب  دولاً وشعوباً  تدفع أثمانها الباهظة، وأول مدفوعاتها، سياداتها الوطنية، واستقلالية قرارها. تكتشف بلدان الجنوب، رويداً رويداً، أن كيان الدولة فيها يضمحل، ومصالحها الوطنية تتضرر، وحقوقها المشروعة تهضم في تبادل غير متكافئ، وسياداتها تستباح، وروابطها الاجتماعية والوطنية تتفكك، وكل ذلك لأنها مزج بها في علاقات دولية «عولمية» جديدة لا تتيح لها آلياتها الدفاعية المتواضعة أن تحفظ موقعاً متوازناً؛ بل حتى أن تكف عنها الآثار السلبية المتولدة من علاقات عدم التكافؤ تلك.

إذا كانت دول بعينها من الجنوب مثل الصين والبرازيل، والهند وإلى حد ما، ماليزيا، قد نجحت في إنجاز تكيف إيجابي وخلاق مع العولمة، واستفادت منها وأصبحت من الفاعلين في مجراها، فليست تلك حال السواد الأعظم من دول الجنوب التي تشهد على أشكال مختلفة من معاناة أحكام العولمة على أوضاعها ومصائرها.

ولما كانت مقاومة هذه الأحكام وكف مخاطرها وحماية المصالح والحقوق، مما لا تقوى دولة عليه منفردة، فقد بات لزاماً على دول الجنوب  بالتبعة  التضامن البيني لمواجهتها مجتمعة، في إطار منظومة واحدة وبرؤية برنامجية واحدة. ونحسب  من جهتنا  أن هذا لم يعد خياراً فحسب؛ بل بات في حكم السبيل الاضطراري الوحيد من أجل ضمان البقاء. وإذا كانت القوى الدولية الكبرى  نفسها  تتداعى، إلى الانتظام في تكتلات قارية وإقليمية (وهي على ما هي عليه من قوة) فكيف لا يكون ذلك مسعى البلدان الأحوج إلى التكتل لممانعة نفسها ووجودها؟

على أن أي تضامن جنوبي جديد ينبغي ألا يتجاهل أن من أظهر أهدافه، مناهضة الحروب، والوقوف في وجه الدعوات إليها تحت أي مسمى أو ذريعة. ولا يقف الداعي إلى سياسة المناهضة عند حد اليقين بأن بلدان الجنوب  شعوباً ودولاً  هي من يدفع أكلاف تلك الحروب، وهي من تقع عليها حصراً؛ بل إن مما يدعو إلى ذلك أن العولمة نفسها دخلت منذ زمن، دور العسكرة، فأصبحت لها مخالب وأسنان فتاكة. إن عسكرة العولمة، كما سماها الراحل سمير أمين، تكفي كي تغرق العالم و«الجنوب»، اليوم، في الحروب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"