في الحروب الاقتصادية

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

لم تتوقّف الحروب العسكريّة في العالم، بعد انتهاء الحرب الباردة، بل استمرّت في مناخات جديدة من الاختلال في التّوازن على الصعيد العالمي، وتكاثرت حالاتُها على نحوٍ غيرِ مسبوق منذ حلول القرن الحالي. غير أنّ ما بَدَا وكأنّه نظيرٌ لتلك الحروب في القسوة، بل أشدّ منها إيذاءً، في بعض الأحيان، هو-على التّحقيق – الحروب الاقتصاديّة والحصارات. وهذه تعاظمت أكثر، في السّنوات الأخيرة، نتيجة إخفاقات المغامرات العسكريّة والأثمان الباهظة المدفوعة من ورائها: مع القليل من المغانم السّياسيّة المكسوبة من خوضها. وإلى ذلك بدَتْ كلفةُ الضّغوط الاقتصاديّة وسياسات العقوبات والحصار أقلّ كلفةً، عند مَن يُقْدِمون عليها، من إرسال الجنود وإرهاق الماليّة العامّة بتكاليف الحرب، بل أدْعَى إلى التّعويل عليها لتحصيل الأهداف السّياسيّة المبتغاة من غير كبيرِ ثمنٍ بشريّ أو ماديّ.

 من المبكّر الافتراض بأنّ حروب الاقتصاد والعقوبات وفرض الحصار ستُعتَمد، في السّياسات الدّوليّة، بديلاً من الحروب العسكريّة لمجرّد أنّ فوائدَها السّياسيّة مجزية. وليس لدينا، اليوم، من قرائن على ذلك، بل القرائن الماديّة تشهد لاستمرار الحرب أسلوبًا رئيسياً. يكفي المرء منّا أن يطالع الميزانيّات العسكريّة للدّول، وحجمَها قياساً بغيرها من ميزانيّات قطاعات اجتماعيّة أخرى، ليدرِك ذلك. هذا دون أن نشير إلى أدوار الحروب، عادةً، في تنشيط الدّورة الاقتصاديّة وتغذيتها (الصّناعات العسكريّة مثالاً)، وإلى الضّغوط التي تفرضها المؤسّسات العسكريّة على مراكز القرار في الدّول، خاصّة في الدّول الكبرى ذات الاستراتيجيّات فوق-القوميّة، والتي تفرض أخْذَ مصالحها في حسبان تلك الدّول.

 ومع ذلك، ينبغي ألاّ يغرُب عن البال أنّ سلاح العقوبات الاقتصاديّة – وقد بلغ، أحياناً، حدّ فرض الحصار الاقتصاديّ – لا يقلّ فتكًا بالبلدان والمجتمعات، التي يقع عليها، من استخدام الجيوش وأدوات الحرب والدّمار. وهو، في الغالب، أقسى لأنّه لا يستثني فئةً من المجتمع ولا منطقةً أو مدينةً من البلد الذي يتعرّض له، وخاصّةً حين تشتدّ إجراءات العقوبات الاقتصاديّة فتصير حصارًا مُطْبِقًا شاملاً: على مثال الحصار الذي فُرِض على العراق، لمدى ثلاثة عشر عاماً، فقضى على مليونٍ ونصف المليون طفل، وأنهك البَلَد وأضعفَ مناعتَه وقدرةَ جيشه على حماية الوطن. وقد لا يشبه الحصار هذا في القسوةِ سوى ذاك الذي فُرِض على كوبا لما يزيد على نصف قرن، والذي يُفْرض على سوريا وقطاع غزّة كما على مناطق أخرى من العالم يُراد معاقبةُ أنظمتها أو شعوبها أو هما معًا.

 ينبغي التّمييز، في هذا الباب، بين الحرب الاقتصاديّة وسياسات العقوبات الاقتصاديّة والحصار لاختلاف معنيَيْهما ونموذجيْهما، ولتبايُن الأهداف منهما بتبايُن القوى التي يُفْرَض على كلٍّ منها نوعٌ من تلك الحرب. لا تكون حربٌ اقتصاديّة إلاّ بين قوى كبرى متنافسة ذات قدرات اقتصاديّة ضاربة ومتكافئة. والحربُ في مثل هذه الحال جزءٌ من منافسةٍ لا تعود «نظيفة»، أو تحترم قواعد التّنافس، التي منها عدم الإضرار بمصالح القوى الأخرى المتنافسة، بل تجنح للعنف الذي منه إلحاقُ الأذى بمصالح المتنافسين (فرْض القيود على السّلع والتّكنولوجيا، فرض العقوبات والحصار على البلدان التي هي في دائرة النّفوذ الاقتصاديّ للقوى المنافِسة، فرض العقوبات على الدّول والشّركات المتعاملة مع القوى المنافِسة...). والهدف؛ تجفيف ينابيع القوّة الاقتصاديّة للمنافسين خارج حدودهم القوميّة. ولعلّ الحرب الاقتصاديّة الأمريكيّة الصّينيّة، الجارية منذ بداية عهد دونالد ترامپ، المثال الأجلى لهذا النّوع من الحروب بين قوى كبرى قد يقودها التّنافس الاقتصاديّ، في لحظة ما، إلى الاصطدام.

 أمّا سلاح العقوبات والحصار والتّجويع فتفرضه دولٌ كبرى، دوليًّا أو إقليميًّا، على دولٍ وشعوب أصغر لفرض شروطها السّياسيّة عليها. وأثمان هذه العقوبات تكون، غالبًا، أثقل من ثمن الحرب الاقتصاديّة. إذا كانت الأخيرة تفضي إلى إلحاق الضّرر بمصالح الدّولة التي تقع عليها الحربُ الاقتصاديّة والتّجاريّة، فإنّ سياسات العقوبات والحصار تقود إلى الشلل الاقتصاديّ الشّامل مع ما يولّده ذلك من أزمات اجتماعيّة، وإلى التّجويع والفاقة والعقاب المبرِّح لمجموع فئات الشّعب. وليس من مستقبل إنسانيّ ممكن، ولا من سلامٍ أو تعايُش بين الأمم، مع وجود – واستمرار – هذه الأنواع الفتّاكة من الحروب على لقمة عيش الإنسان، والتي هي – في المعظم – لا تَقلّ إيذاءً عن الحروب العسكريّة المدمّرة إلاّ في أنّها قد تجري في صمت.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"