«صلاح باشا»

01:54 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نوال عسكر النقبي

نمر كبشر في حياتنا بأزمات أياً كانت طبيعتها تكون سبباً في تغيير مسار حياتنا، تجعلنا نختار الانعزال كفترة لنعيد ترتيب أولوياتنا، تجعلنا نعيد التفكير في مسألة التمسك الشديد بمتاع الحياة أو الزهد فيها، وتقبلنا وإدراكنا للأزمات بشكل سليم يساعدنا على التطور الفكري والعملي والاجتماعي. وسأتحدث في مقالي هذا عن تعرض «صلاح» لأزمة صحية كانت سببًا في تغير مسار حياته، تلك الأزمة جعلته أكثر قوة لملاقاة الموت الحقيقة الوحيدة التي نعيشها في زمن مليء بالزيف والأمور غير المؤكدة.
وقبل الخوض في أثر هذه الأزمة عليه، من هو «صلاح»؟ إنه زميل الدراسة، كان طالبًا مجتهدًا جدًا وملاذ الطلاب للاعتماد على محاضراته التي تتميز بالكتابة السلسة والوافية لمضمون المحاضرة الجامعية. تعرض لنوبة قلبية أو كما يقول الأطباء «تصلب الشرايين».. ورغم معيشته المرفهة كما كان يطلق عليه «صلاح باشا».. كان لا ينقصه شيء فهو من عائلة أرستقراطية وأكاديميه فوالدته أستاذة جامعية ووالده جراح كبير وأستاذ في كلية الطب وهو الابن الوحيد لتلك العائلة.. لم أجده يومًا إلا وهو مجتهد ومبتسم وخفيف الدم.. فكان الخبر صادمًا لي عندما اتصلت بي والدته تخبرني أن صلاح في المستشفى بالعناية المركزة. واهتز كياني لصوت الأم المكلوم على ابنها. ولم أملك سوى أن أقول «صلاح.. صلاح باشا».
أدركت وقتها أن المرض لا يعلم بالوجع الذي يسببه لأهل وأصدقاء ومعارف المريض قبل المريض نفسه.. هي ثماني ساعات في انتظار خروج ابنهم وأنا مع تلك العائلة بين صلابة ومن ثم انهيار وبعدها أمل وتفاؤل ومن ثم سقوط ودموع خليط بين مشاعر متضاربة.. وخرج والده من غرفة العمليات والدموع تملأ عينيه، لم نحدد وقتها هل هي دموع الفرحة بنجاح العملية أم أنها دموع الفقد لأغلى ما يملك.. وقد أخبرنا الأطباء وقتها أنه بخير وبمشيئة الله سيتعافى. وانتهت الثماني والأربعون ساعة الحرجة لتحديد الحالة وأصبح صلاح بخير أو كما قال الأطباء..
وبالفعل تماثل «صلاح باشا» للشفاء وخرج إلى الحياة لكنه أصبح «صلاح باشا» آخر تغيرت حياته بشكل تام. أصبح منعزلًا تلاشت ضحكته، دائمًا يفكر في الموت أو كما يقول الحياه الأبدية التي خلقنا من أجلها.. أطلق صلاح لحيته وانضم للتيارات الإسلامية وهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية واختفى لسنين. وكنت أتواصل مع والدته عن أخباره وكان قولها «لا نعلم شيئاً عنه سوى أنه يبعث ببريد إلكتروني كل مرة من حساب مزيف.. يطمئنا أنه بخير ومازال على قيد الحياة... صلاح باشا.. أو الحج صلاح أو الأمير صلاح كما يطلق عليه زملاؤه ربما في الجماعة التي انضم لها.
فالأزمات أياً كانت طبيعتها تصيب الإنسان لأنها سنّة كونية لا مفر من حصولها، لكن الأمر يتوقف على استقبال الفرد للأزمة وقدرته على تجاوزها وهو ما يمكن الفرد من تحجيم أثرها عليه وتقليص حجم الأضرار الناتجة عنها، أما في حالة تأثره الشديد بها وعدم قدرته على استيعابها فقد يغير الفرد مصيره بشكل تام، ويتحول إلى إنسان آخر غير قادر على تحديد دوره الحقيقي في المجتمع.
فمقالي هذا نداء ل «صلاح باشا» لو تعلم وجع والديك لما هاجرت ولما اختفيت كل هذه السنين.. عد كما عهدتك «صلاح باشا» كما كنت تبتسم، وكما كنت تضحكنا. ارجع إلى أرض الوطن.. اخدمه بذكائك وتأكد أنني مازلت أحتفظ بخطك على دفاتر ذكرياتي قبل محاضرات الدراسة. فطاقتك وقدراتك مكانها موطنك الأصلي.

استاذ جامعي بكلية الاتصال جامعة الشارقة 
رئيس رابطة المجتمع والأسرة العربية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذة مساعدة في كلية الاتصال بجامعة الشارقة رئيسة رابطة المجتمع والأسرة العربية بـ«كارنتر»

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"