الوطنية والمسألة الاجتماعية

01:40 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

يحيلنا التاريخ المعاصر، خصوصاً في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى نماذج متعددة في الوطنية، مستندة إلى أنماط متباينة من حيث الواقع التاريخي من ناحية، ورؤى أيديولوجية مختلفة من جهة ثانية، وبعيداً عن المحددات الشعورية الخالصة المتعلقة بمفهوم الوطنية، حيث يمكن وفق تلك المحددات اعتبار الشعور الفردي الخالص بالانتماء إلى وطن معين كافياً لأن يكون معياراً للوطنية، فإن تاريخ الوطنيات هو تاريخ الاختلاف التاريخي للدول والشعوب، وتاريخ افتراق التجارب الاقتصادية الاجتماعية، وما تنطوي عليه من ممكنات مرتبطة بكل حالة على حدة.

 وعلى الرغم من موجات التبشير بانتهاء الوطنية التي رافقت صعود العولمة منذ بدايات تسعينيات القرن الماضي، وما حملته تلك الموجات من أسباب موضوعية، فإنها لم تصمد أمام الواقع الموضوعي العالمي، فقد حاولت تلك الموجات أن تبث مفهوماً جديداً يتجاوز الانتماء الوطني، المحمول غربياً على فكرة المواطنة، إلى الفضاء العولمي، عبر إطلاق مصطلح «المواطن العالمي»، وهو مصطلح يتطابق تماماً مع مصالح الرأسمال الرقمي والمالي معاً، الذي سعى ولا يزال إلى توحيد أنماط الاستهلاك، لتكون أنماط استهلاك ما فوق وطنية، عابرة للثقافات والجنسيات والحدود، بل خارج قدرة الحكومات على التحكم بها.

 الخطاب الوطني، بما هو خطاب انتماء للجماعة التي تعيش في حدود الدولة وفي ظل سيادتها، ولديها مشتركات في التاريخ واللغة والثقافة، وأحياناً الدين، لم يعد خطاباً مرحّباً به في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة مخاوف اقتران هذا الخطاب بالقومية/ العنصرية، لكن هذا الخطاب لم يختفِ تماماً، بل إنه يعاود الظهور بأشكال مختلفة، خصوصاً مع تحديات النظام العولمي، وما يفرضه من مشكلات في النظام السياسي الدولي، أو الضرر الاجتماعي، نتيجة تبني سياسات ما فوق وطنية، كما حدث في بعض البلدان الأوروبية خلال جائحة «كورونا» الراهنة، فقد وُجهت سهام النقد إلى الحكومات؛ لعدم اهتمامها بمواطنيها، نتيجة التزامها بخطط الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي استفاد فيه البريطانيون من خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، واتباعهم سياسات تلقيح وطنية، حيث تمكّنت الحكومة البريطانية من اتباع سياسة خاصة، انطلاقاً من مصالح وطنية محضة.

 الانزياحات العديدة للوطنية، بوصفها مفهوماً وممارسة في الوقت نفسه، أعطت المسألة الاجتماعية أهمية أكبر، وأعادت بناء التصورات الأساسية للوطنية، انطلاقاً من عالم المصالح المشتركة لمجموع المواطنين، وأصبح تركيز الأحزاب السياسية وصنّاع القرار منصبّاً على تحقيق التقدم الاقتصادي/ الاجتماعي، مع تراجع كبير للأيديولوجيا، وخصوصاً الأيديولوجيا الوطنية.

 في مواضع أخرى من العالم غير الغربي، عرفت الوطنية مسارات صعبة، فقد اضطلعت في ظروف معينة بمهام بناء الهوية الوطنية نفسها، كما في معظم الدول العربية التي تأسست نتيجة انهيار السلطنة العثمانية، ومعاهدة سايكس- بيكو، وعلى الرغم من محاولات جميع الأحزاب السياسية التي حكمت، أو التي بقيت في خانة المعارضة، أن تربط الوطنية بأبعاد اجتماعية، أو أن ترسم العلاقة بين الوطني والاجتماعي، فإنها في العموم لم تقدم مساراً ناجحاً، بل إن مسارها نفسه عانى من انتكاسات كبيرة، بعضها كارثي الطابع، حيث تحولت من الوطنية إلى الديكتاتورية، أو أفرغت شعاراتها الأيديولوجية الاجتماعية من مضمونها الحقيقي.

 المقارنة بين تجارب الوطنيات في التاريخ الحديث، قد تنطوي على إجحاف وعدم إنصاف؛ إذ إن افتراق المسار التاريخي للتجارب، وما يتضمنه من تباينات لحركة المجتمعات، يجعل من الصعب وضع معايير موضوعية للمقارنة، لكن في الوقت ذاته، لا يمكن إنكار وجود محددات معينة تجعل الوطنية ذاتها مسألة اجتماعية، فإذا ما أخذنا عوامل التهديد الخارجية بوصفها تهديداً للوطنية، فإن عوامل ومحددات مجابهة المخاطر الخارجية ليست فقط عسكرية وأمنية، بل هي أيضاً محددات اجتماعية بدرجة كبيرة، مثل متوسط دخل الفرد، ومستويات التعليم، وفرص العمل، وتوزيع الثروة، وضمان الحريات العامة والخاصة، والقضاء المستقل، ومكانة المرأة، وعدم وجود مظالم تطال فئات أو جماعات محددة، فكل هذه العوامل تُسهم في خلق وطنية قادرة فعلياً على مجابهة المخاطر الداخلية.

 وفي ذات السياق الاجتماعي للوطنية، فإن استقرار الأنظمة السياسية بوصفه حامياً للوطنية، هو معيار ذو حدين، ففي الكثير من التجارب التي انفجر فيها المجتمع والدولة معاً، كان الاستقرار السياسي غطاءً خادعاً، كما ينبغي عدم وضع أي تعارض نظري أو عملي بين مفهوم الاستقرار السياسي وبين الدينامية الاجتماعية، كما ينبغي عدم الفصل بين الوطنية وبين أبعادها الاجتماعية، فمثل هذا الفصل هو الوصفة المجربة لتفسخ المجتمعات وانهيار الدول.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"