عبدالله السناوي
«إسماعيل يس ما يعملهاش».. بشيء من الفخر دون أدنى ادعاء، أو تزيد، كشف المخرج الراحل «يس إسماعيل يس» أكثر وجوه والده قرباً إلى الحقيقة.
كان رجلاً شديد الاعتداد بنفسه إلى درجة لا تصدق تكاد تصعب على غيره. عند أوائل عام 2003 خطر لي أن أسأل الدكتور خالد جمال عبدالناصر في معرض تقصي ما كان يحدث في بيت الرئيس خلف الأبواب المغلقة، إذا ما كان الفنان الكوميدي الراحل، قد طلب ذات مرة بالتصريح أو التلميح، مباشرة أو عبر نجله الوحيد، الذي تربطه به صداقة عميقة وممتدة، تدخلاً رئاسياً لحل أزماته المالية المستعصية، التي أطفأت أنوار مسرحه وأورثته ديوناً متراكمة قرب نهاية حياته.
لم تكن العلاقة بين «خالد» و«يس» عادية، كانا صديقين حميمين بلا حواجز تمنع الكلام المباشر في أدق تفاصيل الحياة.
نجل الرئيس يتردد على منزل «إسماعيل يس»، يتناول الطعام فيه من يد والدته، التي كان يقول إنها «طاهية ماهرة»، و«يس» بدوره يتردد على بيت «منشية البكري»، يلتقي الرئيس أحياناً، أو يتناول الغداء على مائدته إذا ما سمحت الظروف.
كان يمكن لإسماعيل يس أن يطلب من نجله أن يفاتح الرئيس مباشرة في ما هو عادل ومشروع وإنساني، أو أن يطلب من «خالد» مفاتحة والده في الموضوع.
بكلمات خالد عبدالناصر: «لم يطلب إسماعيل يس مني، ولا بالإشارة والتلميح تدخل والدي لعلاجه على نفقة الدولة، ولا لحل مشاكل مسرحه المستعصية».
أردف: «لماذا لا تسأل يس؟». لفتتني عبارة: «إسماعيل يس ما يعملهاش»، كأنها نقطة تنوير في قصة حياة أشهر فناني الكوميديا المصرية والعربية كلها تعيد اكتشافه من جديد.
الصياغة نفسها انطوت على مفارقة درامية بين صورته على الشاشة وحقيقته في الحياة.
بإرث إسماعيل يس، فهو كان قد تبرع للمجهود الحربي بألفي جنيه، وهو مبلغ كبير للغاية بمقاييس منتصف خمسينات القرن الماضي، وتلقى خطاب شكر من رئيس الوزراء في ذلك الوقت «جمال عبدالناصر»، الذي لم يكن انتخب بعد رئيساً للجمهورية.
وبإرث «إسماعيل يس» فقد قام في نفس الفترة ببطولة سلسلة من الأفلام لتشجيع الشباب على الالتحاق بالجيش، باعتباره مدرسة تبني الرجال وتعيد اكتشاف طاقاتهم الكامنة، مثل «إسماعيل يس في الجيش» و«إسماعيل في الطيران» و«إسماعيل يس في الأسطول» و«إسماعيل يس في البوليس الحربي».
هو الفنان الوحيد في العالم تقريباً، الذي ارتبط اسمه بعناوين أفلامه كعلامة تجارية مضمونة النجاح.
رغم ذلك كله امتنع بالترفع الإنساني عن طلب تدخل الرئيس لإنقاذ مسرحه، أو لعلاجه على نفقة الدولة، ونأى بعلاقة نجله الخاصة مع نجل الرئيس عن مظنة استخدامها لحل مشاكله وأزماته.
كانت العلاقة بين خالد عبدالناصر ويس إسماعيل يس قد بدأت بالتحاق الأخير عام (1965) ب«المدرسة القومية» في مصر الجديدة، فيما كان «خالد» ف نهاية المرحلة الثانوية.
بعد فترة قصيرة أصبحا صديقين حميمين يخرجان معا بصحبة «شلة المدرسة».
اعتاد «خالد في الإجازات الصيفية التردد على شقة إسماعيل يس «في جليم» «بالإسكندرية»، جلس إليه طويلاً وكثيراً، استمع إلى قفشات ونكات أب مع أبنائه، الذين كانوا يناوشونه.
من المفارقات أن «خالد» نفسه كان إذا ما علت طبقة صوته يكاد يختلط عليك الأمر، كأنك تستمع إلى تسجيل بصوت الأب.
عند رحيل «إسماعيل يس» عام (١٩٧٢) وقف «خالد» بجوار «يس» لأخذ العزاء في فنان الشعب.
بقوة الحقائق لم يكن «إسماعيل يس» مهرجاً رخيصاً يحتال على الناس، كما صوره مشهد بلا أدنى مبرر درامي في مسلسل تلفزيوني يلعب بطولته ممثل متفلت، كأن هناك ثأراً معه.
وبقوة الغضب، الذي اجتاح منصات التواصل الاجتماعي، اعتذرت الشركة المنتجة عن المشهد المسيء، وأدانت نقابة المهن التمثيلية ما يمثله من اعتداء على القوة الناعمة المصرية، التي يعد «إسماعيل يس» أحد أبرز رموزها السينمائية.
الأخطر في ما أعتقد أن ذلك المشهد كان عدواناً على الحقيقة، حقيقة «إسماعيل يس» كما هو عدوان على الإرث السينمائي المصري.
لم يكن التنصل بالاعتذار من المشهد المسيء كافياً لإنصاف رجل رحل في الستين من عمره وخلف وراءه إرثاً فنياً يستحيل حذفه من الذاكرة العامة.
أسوأ ما جرى في القصة كلها هو ذلك الخلط بين ما هو متخيل على الشاشة وما هو حقيقي في الحياة، والاستهتار بفن الكوميديا نفسه، ونجومه الكبار، في أوقات قحط تغيب عنها روح الفكاهة بالأعمال الدرامية كلها، كأن إرث الكوميديا كله، وليس إرث «إسماعيل يس» وحده قد انقضى.
الاعتذار ل«إسماعيل يس» بالمقام الأول هو اعتذار للحقيقة ولأنفسنا في الوقت نفسه.